مصطفى الجارحى يكتب: وكأنما أحدث نفسى فى رحاب "الحقايق تتشاف فـ العتمة"

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
كنت، ولا زلت، واحدًا من أولئك الذين يستمعون الشعر فيتبعون أحسنه.. أفعل التفضيل هنا ليس مطلقًا.. لكنه الميل إلى شعر يتأسس على الصورة بوصفها، فى ظنى، حياة إن هى تغيب انزوى الشعر جافًا يكاد يتشقق، وإن حضرت تجلى القصيد بهيًا.

الموقف شخصى بحت، لكنه لا يعنى بالضرورة إهمال كتابات أخرى لا تعتمد الصورة عمودًا فقريًا للنص.. فجميعنا، أنتم وأنا، ندرك يقينًا أن الساحة الإبداعية تتسع لكل طرائق الكتابة، وتسمح بأن يتجاور شعراء مختلفو الرؤى والمشارب، ومن ثم تشتبك النصوص وتتجادل والاختلاف ثراء.

مقدمة أردت بها أولاً الاحتفاء بديوان "الحقايق تتشاف فـ العتمة"، نصوصًا ومبدعًا، وفى الوقت نفسه لا أغفل، وأنا أستقرئ الديوان، مراقبة مدى انحياز صاحبه للصورة، أو التحلل منها.. دورانه فى فلك التصوف أو الابتعاد عنه.. توسله بالتراث.. صناعة الشعر وشعر العامية على وجه الخصوص.

الشاعر إذن هو أسامة البنا.. يعمل بالسياحة ويعيش بين الأقصر وأسوان، والمنطقتان غنيتان بتفاصيل جمالية وإنسانية لا حد لها على مستوى حياة آنية تمتزج فيها الفطرة بالحداثة، أو على مستوى حضارة تؤكدها المعابد والآثار، وأساطير وخرافات تتسرب فى غالبية إبداعات الجنوبيين، ثم الزخم الدينى المتمثل فى مقامات وأضرحة لأولياء الله الصالحين مع المد السلفى.

نحن، إذن هنا والآن، فى رحاب شاعر مبدع ينتصر حينًا لصورة مركبة اتهمت قبلاً بتغريب المتلقى وإغراقه فى ضبابية لا فكاك منها.. وحينًا، وعلى النقيض تمامًا، يتنازل طوعًا ومجانًا عن تلك الجماليات، فيتحلل منها ويتبرأ إلا من بعض ألق لصورة تطل برأسها هنا أو هناك، ما يدفع للاعتقاد بوقوفه المحتوم على الدوم فى مقام التردد ودخوله بقدميه فى حال الحيرة.

هكذا يضع "البنا" قدمًا ثابتة فى جحيم السؤال والاغتراب والبوح نزوعًا إلى الدهشة ومتعة الكتابة.. أما القدم الأخرى فإنها تطأ جحيمًا آخر هو العادى والمعاش واليومى وربما تفاصيل التفاصيل.

الأرض الأولى تجذب القراء بإعجاب لكن النص يظل مستغلقًا عليهم، فيما الأرض الثانية تشى بالبساطة إلى حد الطمع، طمع القارئ نفسه بأنه يستطيع أن يكتب على هذا النحو (!) أو أن يتعامل مع الشعر باستخفاف (!)

بعضنا حسم أمره باختيار جحيم واحد، غير أن "البنا" آثر أن يقبع فى الجحيمين معًا.. وجل ما أخشاه هنا أن أتذكر حال قراءة نصوصه مقولة أن "كثير التلفت لا يصل".

"سايق فضولى لحد باب الوجد".. الصورة مركبة بالتأكيد.. ولا ينبغى أن تمر من دون وقفة، لأنها مفتاح لقراءة الديوان من ناحية الصناعة، كما كانت مقولة "النفرى" مفتاحًا لقراءته من ناحية الرؤية.. والوَجْد لغة يعنى انفعال القلب، وبعض الصوفية يراه مستعصيا على التعريف، وآخرون عرفوه بأنه "ما صادف القلب من فزع أو غم أو رؤية معنى من أحوال الآخرة"، والوجد محله القلب كالفرح والحزن والألم، والقلوب نوعان: عمياء لا ترى ومبصرة ناظرة، وهو ثمرة للواردات الإلهية، والأخيرة ثمرة للأوراد والأذكار، ومن ثم كانت الأوراد شرطا فى حصول الوجد، فـ"من لا ورد له بظاهره لا وجد له فى باطنه".

وفى جملة، أن مثل هذا النموذج المعبر عن الصورة يتوقف المتلقى أمامه طويلاً رغبة فى الامتلاء والتشبع أولاً، ثم، وثانيًا طموحًا لاستكناه المعنى بمستواه الشارح أو الدلالى، وما عنيت من ذكر هذه الصورة سوى الاستنارة بها، ولم أقصد، بطبيعة الحال، أى اجتزاء يفتت المعنى أو يعمد لتشويهه، وهى صور فى مجملها تمثل الجمل "البطلة" والتى بحاجة بالتأكيد إلى جمل "سنيدة" لتظهر جمالها، وما أكثر الجمل السنيدة فى قصائدنا وهى على أهميتها إلا أنها لم تصل يومًا للبطولة، بل وأحيانًا كثيرة تنزل لمستوى "الكومبارس".. هنا تطل الأنا الشاعرة وكأنها ما تزال تتحكم (سايق) فى فضولها.. نعم.. لكن الفضول، لغة، هو تدخل الإنسان فى ما لا يعنيه.. والمعنى باختصار أن وعى الشاعر لا يعنيه سوى النظر إلى هذه الحالة، التصوف، ولكن عن قرب فقط دون استغراق فى الوجد (لحد باب).. فالباب مدخل لم يتم العبور منه.. والباب حد وفاصل.. قراءة الصورة على هذا النحو ربما تحسم الجدل حول ما إذا كان الشاعر يستفيد من التصوف، تجربة وأداء وسلوكًا وجذبًا واندياحًا وسياحة وما إلى ذلك، أم يكتفى بمراقبة هذه الحيوات المفعمة بالسحر فيلتقط منها معنى أو فكرة أو شخصية دون تورط كلى.. وهى صورة على جمالها الشديد إلا أنه لا يريد منها غير التحكم فى صنعة الشعر.

وفى صورة استفهامية غرضها التعجب يقول "البنا": (إزاى قتيل يجمع غناوى البحر ساعة مد.. يرجع أحد ويعد كم الغنايم وينسى جتته فى العد؟!).. الجزء الأول من الصورة يبدو مألوفًا، وله تنويعات فى شعرنا العربى على شاكلة (إن حظى كدقيق فوق شوك نثروه.. ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه) وتعنى استحالة تحقيق الطلب.. أما الجزء الثانى فهو شديد الأهمية، ويعكس خبرة الشاعر ومهارته فى صناعة صورة مدهشة، وتحمل على أكتافها تاريخًا وشكًا أيضًا.. وحسب الشك أن يفتح مجالاً للتأويل، ويطرح أسئلة لا آخر لها، للوقوف على المعنى الأقرب.. ما الذى يدفع للعودة إلى أكثر من 1400 عام؟ لماذا، مرة أخرى، نعيد عد الغنائم؟ هل كان توزيعها عادلاً؟ من ظلم من؟ من الذى يعد الغنائم؟ قتيل محسوب على المشركين أم شهيد مسلم؟ .. ها أنت بإزاء أسئلة متعددة لتأويل واحد.. على أن الجوهر هنا، بيت القصيد أو مربط الفرس، يتجلى فى (وينسى جتته فى العد)، فهو المنسى دائمًا حتى ولو تحكم هو فى الأمر وأوكلت إليه القسمة، عدًا وتوزيعًا.

على أن هناك نوعًا من صناعة الصورة يتوسل بالعدودة ولكن بحساسية شديدة ومهارة فائقة ومنها على سبيل المثال لا الحصر (سلم لى على خالى الحليوة البكر مين قده.. واقف على باب الصوان ياخد عزاه بيده) فهى تستفيد من روح العدودة بشكل كامل لكنها، وهذا هو الجديد والجميل، تتماس فقط مع بناء وموسيقى العدودة.. فالجزء الأول يسلط الضوء على شخصية الفقيد ويستغرق فى وصف كل جميل فيه (الحليوة) و(البكر) أى العفيف الطاهر النقى، والذى لا مثيل له (مين قده).. فيما الجزء الثانى يقتحم آفاقًا وعوالم أخرى من التصوير ويرسخ لحضور الفقيد، جسمًا وروحًا، ليقف فى سرادق العزاء ويستقبل بنفسه المعزين.

ملمح آخر يتعلق بالتراث.. مدى استلهامه والاستفادة منه حتى لا يصبح عبئًا على النص.. فإن يعمد مبدع للاتكاء على التراث (الدينى – الأدبى – الشعبى – أو الإنسانى بشكل عام) يعنى أنه يحدد مسبقًا قاعدة انطلاق لمفاهيم تبدو قديمة لكنه أراد تفجيرها مجددًا ليسقطها على الواقع.. وهنا يلح السؤال: هل أستجلب التراث لأننى متصالح معه؟ متخاصم معه؟ أم لأتجادل معه فلربما يكشف لى عن المخبوء أو عن المسكوت عنه؟.. هنا قد يتوسل ديوان كامل بمنطقة تراثية بعينها وكفى.. وقد تزدحم قصيدة واحدة، بل وقصيرة، بمناطق تراثية متعددة.

وفى "الحقايق تتشاف فـ العتمة" يمكنك ببساطة أن ترى إلى الكم الهائل من المناطق التراثية لدرجة السيولة، ما بين فرعونى ويونانى وإسلامى وأمثال شعبية ومنها: نشيد الموتى – كهنة آمون- سارق النار- النفرى- السنوات العجاف – أحد – اقرأ – فاطة وعلى والسيدة والحسين – عام الرمادة (وردت أربع مرات)- ملك اليمين- المعتزلة – الأشاعرة – الجبرية – الخوارج (وردت مرتين) – التين والزيتون- الطير الأبابيل- شهريار وشهرزاد- وأد البنات- ما دخلتش دارى وقلت انا آمن- لا أنت الغرقانة بتنادى بطبلة ولا أنا القشة.. أنا تحت مقشة وأنت الهبلة- اللى دابحله البكرى كرما للضيافة- أنا وابن عمى والغريب كنا عليا.. وهى مناطق غنية تكفى لصناعة مكتبة شعرية كاملة.
فإذا كانت "أنا وابن عمى والغريب كنا عليّا" شديدة الجمال فى استفادتها من المثل الشعبى "أنا واخويا على ابن عمى وأنا وابن عمى على الغريب"، فإن إضافة "كرمًا للضيافة" تفسد معنى "اللى دابحله البكرى" لأنها راهنت على عدم فهم المتلقى ومن ثم كان التفسير الذى أفقدها جمالها، وهكذا.. أو أن يستفيد الشاعر من مثلين شعبيين هما "الغرقان يتعلق بقشة" و"هبلة ومسكوها طبلة" فى نسج واحد "لا انتى الغرقانة بتنادى بطبلة ولا أنا القشة.. أنا تحت مقشة وانتى الهبلة".

وفى جملة.. نحن بإزاء ديوان هو بالتأكيد إضافة لرصيد شعر العامية المصرية، وفى حضرة شاعر "شاطر" يقف كتفًا بكتف مع شعراء العامية الكبار.. يسيطر بامتياز على أدواته: يذاكر، يحشد، يجرب، والأهم ينظر للشعر بوصفه صناعة، بعيدًا عن وهم الوحى والإلهام، صناعة قادرة على تشكيل الوعى والوجدان والذوق.. وحسبه أنه ما زال قابضًا على جمر الكتابة.
Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

انقطاع التيار الكهربائى فى التشيك والمترو يتوقف بالعاصمة براغ

يوم الذهب.. الهلال السعودى فى مواجهة نارية مع فلومينينسى البرازيلى من أجل المجد العربى بمونديال الأندية 2025.. إنزاجى بين كتابة التاريخ وكسر هيمنة السامبا.. وبالميراس ضد تشيلسى فى ليلة الثأر الكروى

المصرى مينا رزق يفوز برئاسة المجلس التنفيذى للفاو لمدة 4 سنوات بالإجماع

واشنطن تضغط وحزب الله يتمهل.. رئيس لبنان يعقد اجتماعات لمناقشة "الورقة الأمريكية" المطروحة.. "السلاح" و"الخطوة مقابل خطوة" أهم البنود.. زيارة خلال أيام لمبعوث ترامب إلى بيروت والداخل اللبنانى يترقب النتائج

"جرينكيفيتش" يتولى رسميا قيادة العمليات العسكرية للناتو خلفا للجنرال كافولى


صحيفة إسبانية: أوروبا ترسل كلابًا تستخدمها إسرائيل ضد الفلسطينيين

وفاة سائق قطار 43 سنة تعرض لنوبة قلبية بعد توقفه بمحطة التحرير بالبحيرة

وسام أبو على لصفقة الزمالك المنتظرة من المطار: أراك قريباً

عطارد يسطع فى السماء الليلة ويشاهد بسهولة فى مشهد بديع

موجة شراء إسرائيلية لعقارات قبرص تثير القلق.. والأحزاب تحذر: قد نفقد بلادنا


من الأميرة ديانا إلى جوتا.. حوادث طرق كتبت نهاية مشاهير

غدا.. المحكمة الدستورية تفصل فى دعوى عدم دستورية قانون الإيجار القديم

انفجار هائل فى محطة وقود بروما يسفر عن إصابة 8 أشخاص .. فيديو

رابطة الأندية تُحدد موعد قرعة الدورى المصرى الجديد

شعار سوريا الجديد يشعل ضجة بين الرافض والمؤيد.. فماذا تعرف عنه؟

الملحن محمد يحيى يسيطر على ألبوم الهضبة الجديد بخمس أغانى

مواعيد مباريات اليوم.. فلومينينسي ضد الهلال وبالميراس أمام تشيلسي

طريق الموت ينهى رحلة جوتا نجم ليفربول.. تقرير يفضح كارثة الطريق الأخطر بإسبانيا

رابطة الأندية تجرى تعديلات جديدة على مرحلة التتويج بالدورى فى الموسم الجديد

مفاوضات فى الأهلى لإنهاء أزمة أحمد عبد القادر

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى