حمدى النورج يكتب.. خطاب التذكر الحاد فى رواية "المجنونة" لـ عبد الرحيم كمال

رواية المجنونة
رواية المجنونة

أن تعيش لتحكى ...هى السيرة الذاتية الملهمة...و جودة الحكى المفعم بالغرائبية الساخرة. من فرط الإلهام يتولد إحساس الاندهاش وإقناعية التصديق.. كانت الأم تمسك بطرفى الحكى فى المفتتح . وبرأيه إن هناك كلمات لا يحتويها القاموس، لأن الناس جميعًا تعرف معناها.. وبما أن الحنين يمحو الذكريات السيئة ويرفع من قيمة الذكريات الطيبة، فإن فعل التذكر لا يأتى عمدًا ، لكنه يأتى من شفافية الروح، وخيالها الجامح المتوهج.. هذا التوهج الذى يبعث دفأه فى عوالم الروح،  وصناعة الحكى، إنها الخبرة الطويلة فى الكتابة الاستشفافية غير المرقمة، ولعبة الاستشفاف هذه مشفوعة بالشفافية الغائرة فى جوهر الروح، والتناجى الحي مع رغبات النفس السحيقة..

هذه السنوات المختزلة التى وظفت تيار الوعى إطارًا ثابتًا للخروج والعودة المحكمة.. حيث استدعاء المشاعر والذكريات المضفرة بالواقعية السحرية ،الغنية بالرؤى والأحلام والكوابيس والخرافات، والمأثورات الشعبية العجيبة، تضفيرًا وتعشيقًا لأحداث فنتازية ناجحة فى احتفافها بالواقع المناظر!

الحكى- إذن- عن رواية المجنونة أو كان يسكن هنا ثم طار.. أو بيضتان فى حلقى.. وهو العنوان المحبب لدى صاحب الرواية ، والذى ينطقه ساخرًا فى حياء.. والرؤية تقتضى أن نحدد تيار ما بعد الحداثة وصفا لهذه الرواية التى كتبها عبد الرحيم كمال على رأس الألفى سنة الماضية. أى إنها صدرت عام 2001 ضمن إصدارات الهيئة العامة لقصور الثقافة، صدورًا أعقبه إطباق متعمد عن جوهر حكيها وسلامة بنائها الدرامى ، فهى ليست مشغولة بسرد حكاية واقعية،  ذات بناء درامى وشخصيات تنمو وتتصارع  ، من خلال حبكة تؤدى إلى نهاية منطقية ، مؤسسة على مقدمات فى السياق الدرامى، إنها مؤسسة على تشكيلات متعددة من التداخلات السردية القديمة والحديثة.. فى صورة إشباعية دالة على هصم صاحبها لإجراءات الفن الروائى حكيا وبناء..

والحق لا تعتبر هذه القراءة النقدية الأولى لرواية المجنونة، فقد سبقتها قراءات أخرى تشبعت بالاستيحاء من عمل أولى لكاتب جنوبى سكن فى مصر القديمة ، وطاف مداخلها ،وخبر المجهول من عوالمها المتناثرة ..داخل الحكى السردى للرواية.. ضريح سليمان باشا الفرنساوى ، وأحاء مصر القديمة والتى الذى حدد جموح الخيال.. عندما نظر الكاتب من نافذة شقته ، وطار مع خيط أبيض يلفه قوس قزح ليصل إلى حدود العالم .. رحلة فض فيها كناشة حكيه.. الذى لم يبدأ بعد.. وهو يخاطب صديقه الأبدى الموصوف بالصديق النموذجى حتى القتل.. حيث الارتكاز الثابت فى التجربة الروائية الاندهاشية،  المشبع لدائرة الأفكار المتصارعة،  الباتر لفيضان الهواجس القاتلة المجنونة.. عندما يطارحه.. فيصمته.. منذ اللحظات المباغتة الأولى لما هو داخلى وحميم ، وكشف للمستور دون جرح أو استفزاز ،وعبر تلصص على الدواخل فى آلية لا تليق بالقراء الطيبين.. إنها ريح الخوف التى تسكنا جميعًا فى نبشنا الأولى.. هذا النبش المبتعد عن جمود الراوى وسطوته القاهرة المضللة أو المنفرة، لتستقر بديلًا عنها الشخصية النافذة إلى صلب الفكر الإنسانى حيث رصد البواطن بصدق.

 لقد تطلب ذلك من عبد الرحيم كمال أن يمارس ديكتاتورية حديثه نسبيًّا عندما يحل الراوى الموازى للشخصية كى يقدم بنفسه عالمه الخاص.. عبر عدسة راصدة  و مستوى وعى مماثل... إن رحلة البوح هذه أو المصارحة الإبداعية الأولى تستنبت  جملة من الشحنات المتكونة ، بدأت بلغة البوح المتحدية والرافضة لسلوك القهر الاجتماعى والتهميش، وفوضى القيم.. ودخول الزائف ليطرد الحقيقى الرصين.. جعل الكاتب نفسه رسول خير، يملك لغة الإنذار ثم هو يرافقها ببناء التبشير الرحيم.. ولا ينسى عند ممارسة هذا الفعل أن يتخذ النبرة المستعلية الرافضة للسلوك الطبقى والطوابق الزاحفة.. نبرة تمدح بقوة وجوده، وتمكنه من أدواته الإبداعية فى عمله الروائى الأول ، والذى توقع له ما عومل به..

وفى تعميق للفكرة الكبرى يحتفى الكاتب بروح الشخصيات الضعيفة المهمشة، والسيدات التى ملأها الوجد.. وخاصمتها الحياة.. والسيدات التى هرستها طاحونة الطبقية ، فنفرت بكلام لا يليق ،وهى تحاكى فعل الضحك  والبكاء المستديمين.. والحكاية الإطارية الكبرى المعلقة فى الهواء ،  المجنونة التى تطل برأسها من نافذة الطائرة.. لتخاطب العاشق الناظر للخيط الأبيض. الملئ بالأسماء البيضاء ، والممتد فى شوارع القاهرة ، والخارج من حذاء أحدهم ، ولم تكلف السلطات نفسها حتى أن تعلن عن هذا الخبر فى نشراتها الإخبارية التى تأتى على رأس الساعة.. أو حتى هذه الطائرة البيضاء ذات الخطوط الخضراء التى تحمل مسافرا واحدا.

وإزاء هذه الإشكالية الكبرى التى تبدو فنتازية قاهرة - كان على المرء أن ينظر إلى حبيبه كثيرا لأن الذاكرة خوانه - وكان عليه أيضًا أن يلمس حبيبه كثيرًا ،لأن اللمس ينعش الذاكرة.. وعلى المرء أيضًا أن يسكن كهف حبيبه، ولا يخرج منه أبدا .. لأنه ليس للخجولين وجبات ساخنة كما أخبرته المجنونة التى حلم بها يومًا.. فضحكت عليه ، واقتنصت صاحبه إلى كندا ، ثم هو يمازحه بفعل أكثر إضحاكا وإقناعًا عندما يخاطبه فى نهاية الرحلة.. إلى جوار قبر سليمان باشا الفرنساوى حيث المثوى الأخير.

إنها  حكاية أحداثها فى السماء ...والأرض تنظر إليها بشغف اللقاء.. وإذا كان للتذكر فائدة ، وهي لعبة تبدو قصدية في بعض الأمور ، فإن قصدية طرح هذه الرؤية النقدية الجديدة جاءت من خلال تناسى البعض أن لهذا الكاتب مشروعا فكريا يتوخاه ، يرصده ويبدع تجاربه من خلاله ، تدعيما وكشفا ،وفي سياق هذا المشروع تأتي هذه الرواية التي لا يعلم عنها البعض إلا القليل ، لتكتمل القراءة النقدية لهذا الكاتب من خلال أعماله ، وهذا من واجبات النقد الجيد .

لا ينسى الكاتب فى النهاية أن يردد مقولة ماركيز الخالدة ، إن الحنين يمحو دائمًا الذكريات السيئة ، ويرفع من الذكريات الطيبة ، لذلك فإنه لم ينج أحد من أضراره.. لكن ضرره أن تعيش بباقة الحب التى زرعها فيك أصحاب القلوب الراحلة ..سيدى همام لك الحب...السيد الشريف الذى أهدى له الكاتب روايته الأولى ...رحمه الله .

 

حمدى النورج مدرس النقد وتحليل الخطاب.. أكاديمية الفنون بالقاهرة

رواية المجنونة صدرت عن الهيئة المصرية العامة وتصدر طبعتها الجديدة قريبا عن دار كيان

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

زيادة 15٪ سنويا.. قانون الإيجار القديم يضع قواعد جديدة للأجرة

الأهلى يرحب برحيل أفشة فى يناير.. وسيراميكا مهتم بضمه

فنيون وعمال وبائعون.. تعرف على 747 فرصة عمل جديدة فى الجيزة

باريس سان جيرمان يتحدى فلامنجو فى نهائى كأس القارات للأندية الليلة

هل يشترط امتلاك توكتوك للتقديم فى منظومة الإحلال والحصول على السيارة الكيوت؟


قائمة شاملة بغرامات مترو الأنفاق 2025.. 41 مخالفة

موعد مباراة باريس سان جيرمان ضد فلامنجو فى نهائى كأس القارات للأندية

تصعيد أمريكى خطير ضد فنزويلا.. ترامب يعلن حصار كراكاس

ليلة زفاف نجم الأهلى.. أحمد عبد القادر يحتفل وسط أسرته وأصدقائه فى الدقهلية.. عمر كمال وأحمد رمضان بيكهام أبرز الحضور.. وعصام صاصا وأورتيجا يشعلان الأجواء بالأغانى.. فيديو وصور

مواعيد إجازة نصف العام 2026 لصفوف النقل والثانوية والإعدادية


ملياردير نيجيري يتبرع بـ20.7 مليون دولار لموظفي إمبراطوريته التجارية

مصدر مقرب من أحمد حمدى يكشف كواليس أزمته مع أحمد عبد الرؤوف

عمر كمال وأحمد رمضان بيكهام يشاركان أحمد عبد القادر حفل زفافه بالدقهلية.. صور

شبورة وأمطار على عدة مناطق.. تفاصيل طقس اليوم الأربعاء 17-12-2025

أحمد عبد القادر نجم الأهلى يحتفل بزفافه وسط أسرته فى الدقهلية.. فيديو وصور

منتخب مصر يهزم نيجيريا 2 - 1 فى البروفة الأخيرة قبل أمم أفريقيا.. صور

تعرف على أصوات محمد صلاح وحسام حسن فى جائزة ذا بيست

أسطورة ليفربول يوجه رسالة نارية إلى كاراجر: محمد صلاح لم يخطئ

تعرف على جميع الفائزين فى جوائز ذا بيست 2025

تفاصيل عملية التصويت بـ 55 دائرة فى إعادة المرحلة الثانية لانتخابات النواب

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى