"من سيرة الجنوب والشمال" قصيدة جديدة للشاعر محمود سباق

الشاعر محمود سباق
الشاعر محمود سباق
" الجزء الأول"
ــ 1 ــ
في أوَّلِ الدُّنْيا وأَجْمَلِ حَظِّها:
النيلُ يَرْكُضُ كَالْغَزَالَةِ،
والنَّخِيلُ يَصُبُّ تَمْرًا في نَوَافِذِناْ.،
والشَّمْسُ عَيْنُ الله تَحْرُسُنا
وَمِنْها يَشْرَبُ الْأَبْناءُسُمْرتَهم
ويَنْضُجُ فَوْقَ صَدْرِ بَنَاتِهِ الرُّمانُ،
والقمرُ الوحيدُ على المنازلِ شاعرٌ بِرَبابةٍ
يَحْكِي عنْ العُشَّاقِ والعمالِ والفرسانِ
يحكي .. ،
والنجومُ نقوشُ رسّامٍ على سطْحٍ زجاجيٍّ
ووردٌ أهملَتْهُ يدُ الأحبَّةِ ،
غابةٌ بيضاءُ ، شمعٌ لا يذوبُ،
هنا الجنوبُ،
وفي الجنوبِ حُقُولُنا
قَصَبٌ وناياتٌ لمدَّاحينْ،
وجْهي ووجْهُ حبيبتي،
شالٌ يطيرُ ، وضِحْكَةٌ مَنْسِيَّةٌ،
وقَصِيدَتِي الأُولَى،
وَوِجْدَانِي المُعَبَّأُ بالضِّفافِ وبالضَّحايا ،
في الجنوبِ أبي وعُزْلَتُهُ وقَسْوَتُهُ ،
وسُوءُ الظَّنِّ بي وبما أريد ،
وما أغنّي من قصائدَ ،
ما أرافقُ من صِحابٍ أو نساءٍ ،
لَمْ يَقُلْ لي مرّة:
كم أنتَ أجملُ
حين تَضْحَكُ حِينَ تَبْكِي
لَمْ يقُلْها مرّةً ،
لم يُثْنِ في يومٍ عليَّ
وكم أحبُّكَ يا أبي
يا ابنَ المَحاجِر والمَناجِم والحُقولِ ،
ويا ابنَ طابورِ المَعاشاتِ الطَّويل ،
ورحلةِ الزّمن الكذوبْ.
ـ 2 ـ
وفي الجنوبِ وُلِدْتُ ثانية ..
وُلِدْتُ وفي فَمِي ذَهَبٌ
وقلبي صفحةٌ بيضاءُ ،
ذِهْني شارِدٌ ، ويدايَ مُمْسِكَتانِ بالدُّنيا
وعَيْني غَيْمَةٌ تَسْقي النّوافذَ.،
كنتُ في "إبريلَ" في إحدى نَهَاراتِ الجَنُوب
وَكَانَ أَحْلَى :
كان عُمّالُ الْمَصَانِعِ والمَحَاجِرِ يَصْعَدون الشّاحِناتِ،
وَكانَ عُمَّالُ المُسَلَّحِ
يقْفِزونَ على السَّلالِمِ والْحَوائِطِ كالسَّنَاجِبِ ،
كانَ فَلَّاحُونَ وَسْطَ حُقولِهم
يَتَذَوّقون نَدَى الغُصُونِ ،
ويشربونَ الشَّايَ تَحْتَ الزّيْزَفونِ ،
وكانَ طُلابُ المدارسِ في مَرايِلِهم
يزُّفّون الصّباحَ إلى المدائنِ والقُرى ..
بِوِجوهِهم تبدو الحياةُ البِكْرُ
بِنْتُ الضِّفَّةِ الأولى ،
وبِنْتُ الثَّوْرةِ الأولى ،
وبنتُ المُمْكِناتِ ،
وبنتُ أختي في الصَّفاء وفي الجَفاءِ ،
وكان ناسٌ آخرونَ :
مُهاجرون يودّعون بيوتَهم ونَخِيلَهم وكِلابَهم ،
ويؤكّدون على الوَصايا والرُّجوعِ ،
وعائدون من الشَّمال
يُحَدِّثون عن المَهَاجِرِ :
كيف أغْرَتْهُم وأغْوَتْهم ؟!
وكيف بَنَوْا بها ؟!
ويُوَزّعون على المَحَطّة
كلَّ ما خَسِروا من السنوات
أبناءً وأحفادًا ،
نساءً كُنَّ في عُمْر الربيعِ وقَدْ مضى ،
في كلّ رُكْنٍ من بيوتِك يا شَمالُ
دمٌ ،
وأغنيةٌ ،
وأرواحٌ مؤرَّقَةٌ لأَبْناءِ الجنوبِ .
ــ 3 ـ .
..ونَمَا الْكَلامُ على لِساني
مِثْلما يَنْمُو الحنينُ على الأصابِعِ والخُدُودِ ،
ومثلما ينْمو على الصّحْراء
وقْعُ خُطى الأيَائِلِ والظِّباءِ ،
ومثلما تَنْمُو المواعيدُ الحَزِينَةُ في الرَّسائِلِ ،
مثلما ينمو انتظارُكِ في المَحَطَّاتِ البَعِيدةِ والقَرِيبَةِ.
أنْتِ سَيِّدَةُ الجنوبِ
ووَجْهُهُ الصَّافي
وعيناه اللتان بحيرتان حنونتان
أضعتُ عُمْري فيهما مُسْتَسْلِما ،
وصَباحُهُ الوَرْدِيِّ ،
ضِحْكَتُهُ التي تَهْتَزُّ آلافُ القُلوبِ لَها ،
وَزَهْرَتُهُ التي سَكَنَتْ دَفَاتِرَنا
وأحيتها طويلًا في البَيَادِرِ والمَنَافي .،
في انْتِظارِكِ ..
طالَ ليْلي في انتظارِكِ ،
واشْتَكَتْ مِنِّي الشَّوارِعُ والمَنازِلُ والأسِرَّةُ ،
في انتظاركِ ..
كم بكيتُ ،
وكم تجرَّحت الوسائدُ تحت رأسي
كم جفا قمرٌ وخاصم شرفتي ،
كم جفَّ وردُ المزهرية ،
كم تعطَّلَ بي القطارُ ،
وكم رماني بالجنون الناسُ .،
وحدي في انتظارك ..
ضائعٌ بَيْنَ البِلادِ ،
أحبَّتي هَجَروا منازِلَهُمْ وَغَابُوا
في انْتِظارِكِ ،
إخْوَتِي غَضِبُوا عَليَّ وأهْمَلُوني
في انتظارِكِ ،
لامَني الأصْحَابُ وابْتَعَدُوا
ومَرَّ على دَمِي جَيْشُ العَوازِلِ ،
والوُشاةُ
وأفلتَتْ مني الدُّرُوبُ.
ـ 4 ـ
..وصَحَبْتُ أبْناءَ الجنوبِ ،
سكبْتُ أحلامي على أحلامهم
وخَبَزْتُ ليلا طازَجًا ،
وفتَحْتُ قلبي كالحديقةِ للجَمِيعِ :
أنا الشماليُّ ابنُ أمي
وابنُ بَحْرِ اسكندريةَ يا صحابُ .،
أنا الشماليُّ ابنُ أمي
كنت أرْكُضُ في الشوارع والحقول وَراءَها
أمْشِي كَمَا تَمْشِي
وأحْفَظُ خطَوَها من أنْ تشيِّبَهُ السنينُ ،
وكنتُ أقْفِزُ كالطيور المنزلِيَّةِ حولها
لكنَّ خطويَ كان أصغرَ ،
كنتُ أجمعُ ما تناثرَ خلْفها من ذكرياتٍ
عَنْ أبي وعَنِ الْجَنوبِ .،
أنا الشَّماليُّ ابْنُ بحْرِ اسكندريةَ
أوَّلِ المدن التي انْكسرتْ على شطآنها أحزانُنا
ورَسَتْ مراكبُنا
ووشْوَشَنا المحارُ بها
وأخْرَجْنا البلادَ من الحقائب
والبيوتَ من المعاطف
والحنينَ من القلوب.
( ب )
ــ 5 ــ
..، هبطَ المهاجِرُ يا بُنَيَّ
وكانت الدُّنْيا شِتاءً قاسيًا،
والليلُ حرْبٌ بيْنَ رَبَّاتِ السَّماءِ
ــ وكانت الأرض الضَّحِيَّةَ ــ،
والقرى في ذُرْوَةِ الأحلامِ ،
والأسْرارُ تلْهو في الشَّوارعِ ،
والأنينُ الخافِتُ النَّعْسانُ يُفْلِتُ،
صوْتُ طقْطَقَةِ الأصابعِ واشْتِباكتِها يَرِنُّ ،
وضوْءُ شُبَّاكٍ يُلَوِّحُ مِنْ بعيدٍ ،
صورةُ امْرَأةٍ تُسَرِّحُ شَعْرَها
وتَفُكَّ أسْرَ الليْلِ مِنْ شَرَكِ الضَّفائِرِ .،
تبْدَأُ الليلاتُ من إحدى ديارِ قُرى الشَّمالِ
ــ ودائمًا لا تنتهي ــ
سَتُعَدَّ مِدْفَأةٌ
وتُسْرَجُ لمْبَةٌ
ويَطيبُ شايٌ .،
حاملًا أيَامَهُ وحُظوظَهُ وعَذابَهُ..،
نزَلَ الغريبُ دِيارَنا وبسَطْتُ حبلَ الوُدِّ،
قال : أنا المُهاجِرُ،
دلَّني قلْبي عليكِ ،
وجئْتُ أحملُ بُؤْجَتي السَّوْداء مِنْ طولِ الليالي،
في يدي اليُمْنى سلاماتُ الجنوبِ إلى الشَّمال ،
وفي دمي جيْشٌ من الأحْفادِ يشْتعِلونَ ،
ينْتظِرونَ أنْ تحكي لهمْ :
عنْ صيْفِنا وشتائنا ،
عن أسْمَرِ الوَجْهِ النَّحيلِ،
وعن صلابةِ عودهِ،
عن نهْدِكِ الفَهْدِ الذي من فَرْطِ ثوْرَتِهِ
سيقْفِزُ من مَحابِسِهِ ويهْتِفُ ،
عن لِيُونَةِ عودِكِ الزَّانِ الطَّريِّ ،
وعن أوانِ الوَرْدِ فوْقَ خُدودِكِ التّفاحِ،
عنْ هذا الصَّباحِ إذا ضَحِكْتِ ،
عن النَّسيمِ إذا تَحَرَّكَ طَرْفُ ثَوْبِكِ ،
عن يدي بيديْكِ..
كيفَ تَصالحَ الأعْداءُ
وانْتَهَتِ الحُروبُ.
ــ 6 ــ
ــ أصابَني منْ سِحْرِ قوْلِكَ
ما أصابَ الغُصْنَ منْ بَلِّ النَّدى ،
والشَّاطِئَ المهْجورَ من قَدَمِ الأميرةِ
حينما ضلَّتْ قوارِبُها
ــ وكيف يكونُ ذلكَ ؟
ــ كانَ أنْ ..
أُمّي ستغْضَبُ لوْ رأتْكَ ،
ولو رآنا الجارُ لمْ نسْلمْ ،
غدًا..
والأهْلُ والجيرانُ مُنْشَغِلونَ باستقْبالِ زُوَّارِ الحِجازِ
أكونُ وحْدي.
في الظَّلامِ مَضى المُهاجِرُ ،
تارِكًا طيْفًا على الشُّباكِ
ينْعسُ مُطْمئنًا هادِئًا .
ــ لوْ لمْ يضَعْ يدَهُ على الفُسْتانِ
ما اشْتَعَلَتْ حرائقُ ،
ما تشَرَّدتِ الخيُولُ ،
وما نما الوَحْشُ الصَّغيرُ ،
وما تفَتَّحتِ الحدائقُ ،
ما تَغَيَّرَ طعْمُ أيامي ،
وما سالَ الحَليبُ على المَحارِمِ ،
ما أقَمْنا في البلادِ وما نزَحْنا ،
ما سَهَرْنا في بيوتِ النَّاسِ ..
نَحْرُسُ ليْلَهُمْ ،
ونُديرُ أعْيُنَنَا على أطفالِهمْ ،
نَحْمي مَواقِدَهمْ لنَطْبُخَ
أوْ نُسَوِّيَ قهْوةً لضيُوفِهمْ ،
نصْحو مع الكَرَوانِ
نطْلِقُ خيْلَهم وطُيورَهمْ ،
ونَهُشُّ عنْ أغْنامهمِ ،
نرْعى مواشِيَهُمْ ونَحْمِلُ روْثَها للحَقْلِ ،
نُرْوي الحقْلَ .. نزْرعُهُ .. ونَعْزَقُهٌ ..
ونَحْلُمُ بالحَصادِ نِيابَةً عنْهُمْ .



موضوعات متعلقة..


- "أملأُ عينى.. ويبْتَهجُ" قصيدة لمحمود سباق
Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

ورطة نتيناهو تنسف وهم "إسرائيل الكبرى".. فشل تمديد استدعاء قوات الاحتياط فى جيش الاحتلال.. ائتلاف نتنياهو يفشل فى تأمين الأغلبية للتصويت على تمديد الخدمة.. انتقادات للحكومة وضباط يرفضون الامتثال للخدمة العسكرية

سنة دون مبرر.. غلق الوحدة السكنية يوجب إخلاءها فى قانون الإيجار القديم

بيان الفصائل الفلسطينية: نقدر الجهود المصرية الكبيرة بقيادة الرئيس السيسى

رجل يلاحق زوجته بسبب تحايلها بمستندات مزورة للزج به فى السجن.. التفاصيل

أبرق قرية ظهرت فيها علامات الإنسان القديم ومخطوطاته قبل التاريخ.. تقع شمال غرب مدينة الشلاتين.. أهم مناطق محمية جبل علبة الشهيرة.. يقع بها أقدم آبار الصحراء الشرقية.. ويعيش بها قبائل العبابدة والبشارية.. صور


ريبيرو في حيرة بسبب مركز الجناح الأيسر في الأهلي.. اعرف التفاصيل

إعفاء طلاب الثالث الإعدادى بالعامين الدراسيين 2026 و2027 من أعمال السنة

وزير التعليم يعلن تطبيق أعمال السنة على الصف الثالث الإعدادى

بدء هدم عمارة هندسة السكة الحديد بميدان رمسيس لتوسعة كوبرى أكتوبر.. إنشاء موقف متعدد الطوابق للقضاء على العشوائية وإزالة كافة الأكشاك والمحال المنتشرة بالميدان.. وتجهيز مول تجارى ومكاتب إدارية بديلة.. صور

قرار مهم لوزير التربية والتعليم بعد قليل


5 معلومات عن مباراة الأهلى وفاركو غدا الجمعة فى الدوري المصري

عمر مرموش يقتحم قائمة ملوك التسديدات فى "بيج 5" وينافس محمد صلاح

إبراهيم داود فى ملتقى اليوم السابع للثقافة والفنون: أنا فلاح أزرع الأرض والرزق على الله.. عبد القادر القط أعطانى صك الاعتراف بالموهبة وجمال الغيطانى احتفى بى.. يوسف إدريس جعلنى صحفيا.. ولويس عوض لم يأخذ حقه

ترتيب الدورى المصرى قبل انطلاق الجولة الثانية.. المصرى في الصدارة

علياء قمرون أمام النيابة: "معرفش يعنى إيه غسيل أموال.. كنت بفرح بالدعم عشان أجهز نفسى"

اللجنة المصرية توزع آلاف الطرود الغذائية على سكان غزة.. فيديو وصور

من التحرش إلى الخطف والترهيب.. عقوبات قاسية تنتظر المتهمين فى واقعة فتيات طريق الواحات

الإعدام شنقا للمتهم بقتل زوجته حرقا فى الشرقية

قمة ترامب وبويتن.. سر اختيار قاعدة عسكرية أمريكية استخدمت لمواجهة روسيا

مصر تدين بشدة الإعلان عن خطة بناء 3400 وحدة استيطانية بالضفة.. الخارجية تحذر إسرائيل من الانسياق وراء معتقدات وهمية بتصفية قضية فلسطين وتجسيد ما يسمى "إسرائيل الكبرى"..وأي محاولة لتهجير الفلسطينيين مصيرها الفشل

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى