"عطر الفسيخ"

د. محمد على يوسف
د. محمد على يوسف
بقلم - د. محمد على يوسف
لم أكن يوما من محبى الفسيخ أو من المعجبين المنبهرين به، ربما تناولته عدة مرات فى حياتى لم ينتج عنها ذلك الإعجاب المفرط الذى يشعر به كثير من المصريين ولم يؤد إلى نفور مطلق أو كراهية عنيفة كتلك التى يبديها البعض الآخر.. عادى.. مجرد سمك مملح وممكن لو تمليحه قليل شوية يكون طعمه شبيها بـ"السيمون فيميه" الذى تعرفه المجتمعات والأوساط الراقية وتذوقته مرة أو مرتين فى مؤتمر طبى أو ما شابه، لكن مسألة الرائحة مختلفة تماما.. ربما كانت تلك الرائحة الرهيبة هى الحائل الرئيسى بينى وبين الفسيخ !

رائحة تجعلنى أحرص على الفرار من أى تجمع عائلى يتوسط مائدته هذا الضيف الثقيل، المهم.. دعيت منذ فترة لتجمع عائلى على شرف هذا الضيف ولأسباب معينة قررت الحضور هذه المرة معتذرا لأنفى الذى عليه تحمل هذه الرائحة لعدة ساعات ربما يهونها أنس التجمع ودفء الأسرة، لكن الحقيقة أن ما هون الأمر كان شيئا آخر..الإلف، التعود، التكيف، كلها كلمات تؤدى لنفس النتيجة أننى تحملت الأمر.

فى البداية طبعا زكمت أنفى تلك الرائحة المنتنة وضاق بها صدرى ثم رويدا رويدا بدأت أتعود، بعد دقائق صارت الرائحة محتملة ثم بعد قليل لم أعد ألحظها أصلا، هل هى فعلا سيئة أم ترانى كنت مخطئا؟! الحقيقة هى فعلا سيئة إنها رائحة منتنة لا فوارق كثيرة بينها وبين رائحة أى جسم منتن آخر أو أى جيفة حيوان تم تركها لتتحلل على جانب الطريق، غير أن هذا الأخير تُرك ليُنتن بغير قصد بينما تُرك الفسيخ بقصد، إذا فلماذا لم أعد ألحظها؟! لماذا لم أعد أنفر منها؟! كيف وصلت لأن أسأل نفسى أصلا عن مُسَلَّمة بديهية ككون رائحة الفسيخ سيئة أم ليست كذلك؟! بل كيف يصل الأمر أن تسارع إحدى القريبات العزيزات بإبداء إعجابها بهذه الرائحة لدرجة أن تتمنى وجود اختراع يعبئ تلك الرائحة فى زجاجات عطرية للاحتفاظ بها وربما التعطر بها ولنسميها "بارفان الفسيخ" ألهذه الدرجة؟! بارفان برائحة الفسيخ وربما بعد حين عطر الثوم وأسانس البصل وكولونيا بعبق التقلية ما المانع؟! كل هذا سيكون واردا مقبولا إذا تحقق الشرط التعود والإلف، ذلك الذى يغير المعايير الطبيعية للأشياء ويجعلها خاضعة لمعيار واحد، التكيف، حتى لو أدى هذا التكيف بعد حين لإفساد الذوق وفقدان الأحاسيس الطبيعية بل وتحولها للنقيض فيصير السيئ حسنا والبغيض محبوبا والمستقبح مستحسنا وأيضا قد يمسخ ذلك التعود الفطر المستقيمة فيُصَيِّر الحرام حلالا والمكروه مندوبا والمستنكر مستباحا مستمرئا.

عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: "إنكم لتعملون أعمالا هى أدق فى أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد النبى صلى الله عليه وسلم من الموبقات" هكذا بيَّن الصحابى الجليل تلك الحقيقة التى لا نلحظها مع طول الأمل واعتياد الأشياء، حقيقة تغير المعايير والتعريفات. لقد تغير حكم من عاصرهم سيدنا أنس وتحولت نظرتهم لبعض الأمور مع مرور الوقت وطول الأمد فصارت أشياء هينة بسيطة وصغرت فى أعينهم حتى صارت أدق من الشعر رغم أنها كانت يوما -قبل اعتيادها- من الموبقات وربما لو مد الله فى عمر سيدنا أنس أعواما لوجد من لم يعد يراها أدق من الشعر بل لم يعد يراها أصلا وماذا لو مكث قرونا بعد ذلك؟! أليس من الممكن أن يجد من اعتادوا تلك (الموبقات) حتى صارت هى الأصل وصار المستغربون المستهجنون هم من يتقونها أو حتى يأنفون منها ويضايقهم وقوعها.

أعتقد أن هذه الافتراضات لا يمكن استبعادها فنحن بالفعل نراها ونعيشها والتى تعد أهون صورها هى تلك التى تظهر فى تعامل الكثيرين مع تلك الرائحة المنتنة التى مهما تعود عليها البعض وألفوها وأحبوها أو حتى عبأوها فى زجاجات وتعطروا بها فستظل فى حقيقتها منتنة مقززة، وستظل المشكلة فى الأنوف التى قررت أن تتخلى عن حساسيتها وتتصالح مع ما يزكمها حتى لا تمانع يوما أن تتعطر بعطر مستخلص منها.. عطر الفسيخ.
Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

أحمد عبد القادر يقترب من الانتقال للحزم السعودي بعد ترحيب الأهلي

الرئيس السيسى يصل مالابو للمشاركة فى اجتماع القمة التنسيقى للاتحاد الأفريقى

الأهلي يغلق ملف التفاوض مع مصطفى محمد خلال ميركاتو الصيف.. اعرف السبب

موعد وصول وسام أبو علي إلى القاهرة بعد تجميد ملف رحيله عن الأهلي

أخبار مصر.. موقع اليوم السابع يحصل على حق إعلان نتيجة الثانوية العامة 2025


محمد شريف يظهر فى مران الإثنين بعد التوقيع للأهلي لمدة 5 مواسم

السياحة والآثار ترد بالصور: ركن فاروق آمن وسليم ولم يتعرض لأي حريق أو أضرار

الأهلي يستعد لإعلان صفقة ياسين مرعي واللاعب يظهر فى مران الإثنين المقبل

نتيجة الثانوية العامة 2025.. الإعلان بالدرجات على اليوم السابع خلال أيام

كشف أثرى بالكرنك.. العثور على مبنى بالطوب اللبن يحوى أفران ومعدات طهى خبز.. صور


الأونروا تحذر من عواقب صحية وخيمة لانعدام المياه واكتظاظ الملاجئ في غزة

16 شهيدا جراء قصف الاحتلال الإسرائيلى مناطق متفرقة من قطاع غزة

وزير خارجية اليابان يدعو دول شرق آسيا للتعاون لدعم فلسطين

المبعوث الأمريكي: لا ندعم إنشاء دولة منفصلة لـ "قسد" في سوريا

منتخب مصر يواجه إثيوبيا 5 سبتمبر باستاد القاهرة فى تصفيات المونديال

وزير الدفاع اللبناني يبحث سبل تعزيز التعاون مع الدانمارك في المجالات الدفاعية

الإمارات وألمانيا تطلقان فى برلين مجلس الأعمال المشترك لتعزيز العلاقات

رئيس الوزراء السودانى: الحكومة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام الجرائم فى الفاشر

مقتل 61 شخصا وإصابة 231 خلال آخر 24 ساعة فى غزة

رئيسا الإمارات وأنجولا يبحثان هاتفيا سبل تعزيز التعاون المشترك

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى