تجديد التفكير الدينى

مجدى عاشور
مجدى عاشور
بقلم د. مجدى عاشور
ذكرنا فى المقال السابق أن من أسس التفكير الدينى الصحيح الذى ينبغى الالتفات إليها والتوعية بها على سبيل التجديد والرجوع بالشىء إلى أصله – مراعاة سنن الله تعالى فى الكون والإنسان والاجتماع والتاريخ، وأن تجاوزها وعدم الاعتناء بها يدعو إلى التخبط مع النفس والصراع مع الغير والصدام مع معطيات الكون ومفرداته، وسنرجع بشىء من التفصيل فى الكلام عن تلك السنن ومدى حاجة التفكير والخطاب الدينى إليها فى صياغة عقل الإنسان فضلا عن المسلم الذى يعتنى بنور العقل بما لا يخالف الشرع.
 
ومن الأسس التى لا تقل أهمية عن السنن الربانية فى تشكيل العقل بل والوجدان البشرى ما يمكن أن نسميه "منظومة القيم" التى تحكم الإطار الروحى والأخلاقى فى حركة الإنسان وسلوكه تجاه أخيه الإنسان بل تجاه الكون كله.
 
إنه من المقرر عقلا وشرعا أن غاية الديانات كلها تدعو إلى التخلى عن كل خُلُق دَنِى والتحلى بكل خُلُق سَنِيٍّ، حتى إن النبى محمدا صلى الله عليه وسلم قد بيَّن ذلك حين لخص الهدف من بعثته الشريفة فقال: "إنما بُعِثْتُ لأتمم مكارمَ الأخلاق"( رواه أحمد والبخارى فى الأدب المفرد )، وفى رواية عند الإمام مالك رصى الله عنه: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق"، ولذلك كان الدين كله خُلُقًا، بكل ما يندرج تحته من: عقائد، وعبادات، ومعاملات. 
 
وقد يتبادر إلى أذهان البعض أن الأخلاق مرتبطة فحسب بالمعاملات لأنها متعلقة بالتعامل بين الناس، ولكن الحقيقة الراسخة أن العقيدة أيضا تحتاج إلى التحلى بالأخلاق حتى وإن كان محلها القلب؛ إذ أساس الأخلاق فى الواقع هو القلب والوجدان، وعقيدة بلا أخلاق - كالصدق والإخلاص مثلًا - هى عقدة خَرِبَة فاسدة، وهى ما نسميها بالنفاق، وهو أسوأ وأشد ضررًا على المجتمعات من الكفر والإلحاد، وهو ما حذرنا الله تعالى منه فى قوله: (يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)[آل عمران: 167]، وأهل هذا النفاق هم فى الحقيقة قوم استفحل داؤهم ومرضت قلوبهم، قال عز وجل: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ. يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)[البقرة: 8 – 10] ولذلك كانت عقوبتهم يوم القيامة أشد من الكفار فقال سبحانه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)[النساء: 145]، وهؤلاء هم شرار الخلق فى كل زمان ومكان.
أما ارتباط العبادات بالأخلاق فهو مما نصت عليه نصوص الشرع وتواترت على معناه، بل لم تعتبر العبادة ولم تُعَدَّ مقبولة إذا لم تكتنفها الأخلاق، فقال تعالى فى شعيرة الحج: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجِّ)[البقرة: 197]، وقال صلى الله عليه وسلم: "من حج فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذنوبه كيومَ ولدته أمه"( أخرجه البخارى ومسلم )، وفى عبادة الصوم قال صلى الله عليه وسلم: "وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنى امرؤ صائم"( أخرجه البخارى )، بل جعل الشرع الشريف التخلى عن الأخلاق المذمومة هو غاية الصلاة الصحيحة المقبولة والمطلوبة من العبد فى قيامه لربه، فقال سبحانه: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)[العنكبوت: 45]. وبمفهوم المخالفة فإن من لم تنهه الصلاة عن تلك الرذائل لم يكن فى صلاة بالمضمون والمعنى وإن أدَّاها فى الشكل والمبنى، وهو ما نص عليه الحديث الشريف: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فلا صلاة له"(أخرجه ابن أبى حاتم)، بل إذا لم تنتج الصلاة الأخلاق الحسنة أدَّتْ إلى نقيض المقصود منها، فقد ورد فى الحديث: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد بها من الله إلا بُعْدًا"(أخرجه الطبرانى). ولذلك قيل: أداء الصلاة غير إقامة الصلاة، فالأداء صورة والإقامة حقيقة. وقيل: الأداء نَصْب القدمين والإقامة خشوع القلب.
 
وحين تنفصل الأخلاق عن العبادة، ويستمر الوضع على ذلك مدة من الزمن، يصير القائم بتلك العبادة مريض القلب ومعوج الفكر ومعتل العقل، فيتسرب إلى نفسه حتى يتمكن منها حُبُّ الظهور وإيثار الهوى ورؤية النفس دون الآخرين، فيصبح أداة هدم لمن حوله بدل أن يكون نبراسًا للبناء، ولمرضه المستحكم يظن أنه يحسن صنعًا.
 
ومن جراء انفصال الأخلاق عن العبادة نتج كائن مشوه، يدعى الفضيلة والالتزام وقد أُشْرِبَ قلبه حب الذات وكراهية الآخر؛ بل والاعتداء عليه، وصولا لامتهان الكرامة وانتهاك الحقوق ولإراقة الدماء، وظهر ذلك جليًّا فى فرقة الخوارج، التى ابتُلِى بها المسلمون فى كل زمان ومكان، حتى خرج علينا خوارج هذا العصر، الذين شوهوا الدين السمح داخل البلاد وخارجها، ومزقوا الأمة واستباحوا دماء الإنسان، ولم يَسْلَم منهم حتى من كان على ملتهم من بنى الإسلام، ولا غرو فقد بيَّن لنا النبى صلى الله عليه وسلم هذا المرض وهؤلاء المرضى، فقال: "يأتى فى آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم "(أخرجه البخارى)، وزادهم وصفًا فقال: "يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ"، وبعد هذا التلبيس منهم يكشف صلى الله عليه وسلم عن أخطر نتائج مرضهم وتدليسهم، فيقول: " يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ".
 
إن إقامة العبادات فى الأصل هى لله، ولكن المطلوب منها مع العبودية أن تنتج أخلاقًا تظهر على صاحبها ويستفيد منها خَلق الله؛ ليسعد الإنسان فى ذاته ويتعايش بالخُلُق الحسن فيسعد غيره، وذلك مطمح كل عاقل فى الدنيا والآخرة. ولذلك فصلاةٌ بلا أخلاق كالحرث فى البحر، وصلاة بأخلاق مدعاة لكل فخر. 

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

الناقدة ماجدة خير الله تشيد بالفنان أحمد مجدى بعد أدائه في "فات الميعاد"

استخراج جثة سيدة بعد تقطيع السيارة إثر سقوط ونش عليها بطريق الأوتوستراد

وزير الخارجية يزف بشرى للمصريين بالخارج: بحث تجديد مبادرة استيراد السيارات

ملخص وأهداف باريس سان جيرمان ضد إنتر ميامى 4-0 فى مونديال الأندية

ترامب يقترب من إنجازه التشريعى الأول فى الولاية الثانية.. تقدم مشروع القانون الكبير الجميل بمجلس الشيوخ.. الرئيس يصفه بانتصار عظيم ويتوعد المعارضين له بدعم منافسيهم فى الانتخابات..وإيلون ماسك يهاجمه: مدمر تماما


مصرع سيدة سقط عليها ونش أثناء تواجده داخل سيارته فى طريق الأوتوستراد.. صور

الجمارك تحبط محاولة تهريب 3 آلاف دولار داخل "شبشب" فى طرد قادم من المغرب

بى بى سى تسلط الضوء على كشف "إيمت" الأثرى بجهود فريق مصرى بريطانى

الخميس 3 يوليو موعد إجازة 30 يونيو.. رئيس الوزراء يصدر القرار رسميا

الاتحاد الأردنى لكرة السلة ينشر بيانًا لتوضيح قرار الانسحاب ضد إسرائيل


حل أسئلة امتحان اللغة الإنجليزية لطلاب الثانوية العامة.. راجع واحسب درجاتك

كامل الوزير يتفقد موقع حادث المنوفية على الإقليمي: هذه المأساة لن تتكرر

الأهلي يُخطر وسام أبو علي بموقفه النهائي من عروض الرحيل

تفاصيل أسعار السجائر بعد موافقة مجلس النواب على قانون القيمة المضافة.. زيادة الحدين الأدنى والأقصى لأسعار السجائر 12% لمدة 3 سنوات.. رفع سعر المحلية إلى 48 جنيهاً والمستوردة 69.. والتطبيق 5 نوفمبر 2025

إعلام إسرائيلى: تبادل إطلاق نار كثيف بموقع حدث أمنى خطير فى خان يونس

تداعيات حادث المنوفية.. مجلس النواب يكتسي بالحزن على وفاة 19 فتاة.. بدء الجلسة العامة بدقيقة حدادا على أرواح الضحايا.. نواب يلقون بيانات عاجلة ومطالب بمحاسبة المقصرين.. والحكومة: لن نتهاون مع المهملين

حقن مضادة للشيخوخة ولعب اليوجا.. تعرف على سبب وفاة شيفالي جاريوالا

امتحانات الثانوية العامة 2025.. طلاب بعد أداء امتحان الإنجليزى: أسئلة القطعة صعبة وإجاباتها محيرة.. مستوى الاختبار فوق المتوسط.. صفحات الغش تنشر الأسئلة بعد بدء اللجنة.. ووزارة التعليم تتخذ الإجراءات

المصري ينهى اتفاقه مع عمر الساعي فى انتظار استكمال مفاوضات الأهلي

أحمد أبو اليزيد يكتب: شيرين عبد الوهاب صوت الجميع

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى