المخرج الكبير عصام السيد يكتب: ظلم قراقوش

المخرج عصام السيد
المخرج عصام السيد

اتخذ المصريون من السخرية عصا يتكئون عليها، تعينهم على احتمال تقلبات الحياة وعند الضرورة كانت تلك العصا وسيلة لإلهاب ظهور حكامهم، وكأنها تحولت من أداة للاحتماء والاحتمال إلى أداة للهدم والانتقام، فتاريخ مصر يمتلئ بوقائع كثيرة انتقم فيها الشعب من الحاكم بهدم سمعته وتشويه تاريخه، ثم عاشت تلك الوقائع لتصبح تسجيلا لمواقف سياسية بعينها، لكن السخرية من الحاكم المنقولة لنا كمعاصرين لا تعنى بالضرورة أنها صحيحة أو أن هذا هو موقف الشعب فى زمانه، فربما كانت وقائع مغلوطة ساعد على تثبيتها تاريخيا حجم وقوة تأثير المناوئين لذلك الحاكم .

 

فالخليفة الفاطمى الحاكم بامر الله لم يبق منه – فى الخيال الشعبى وبعيدا عن الدراسات التاريخية الجادة – سوى مجموعة من الحواديت الساخرة حول منعه أكل الملوخية وتحريم خروج النساء للشوارع واستبدال الليل بالنهار فى العمل، إلى آخر تلك المساخر المتداولة والمشاعة عن فترة حكمه، فى حين أن الباحث المدقق سيرى فى نفس الفترة إيجابيات متعددة خاصة فى مجال منع الرشوة ومكافحة الفساد والاهتمام بعدالة القضاء وتحقيق العدالة الاجتماعية وضبط الأسواق ومكافحة الغلاء، وحتى قراراته التى تبدو غريبة كانت لها أسبابها، بل أن بعضا من أفكاره سبقت عصره مثل دراسة أقامة سد لتخزين ماء النيل لاستخدامه فى السنين العجاف .

 

صحيح أن بعض المصريين سخروا من الحاكم بأمر الله، وابتكروا وسائل متعددة لإيصال سخريتهم إليه برغم شدته وعنفه، إلا أن كثيرين أحبوه، حتى صار الرجل قادرا على التجوال فى الأسواق بلا حراسة، برغم أن عصره امتلاء بحروب مع أعداء على الحدود شرقا وغربا للحفاظ على ملكه، لكن من قاموا باغتيال الحاكم وتصفيته جسديا اغتالوه أيضا معنويا، وساعدهم المؤرخون السنة فى محو أى فضيلة للرجل، ولم يبق منه إلا ما أراد اعداؤه أن يشيعوه عنه .

 

وفى واقعة أخرى نرى حاكما أساء إليه كتاب واحد، فألصق به كل نقيصة حتى صار مثالا للظلم وعنوانا للغباء و الحماقة، الرجل هو: "بهاء الدين قراقوش" نائب الناصر صلاح الدين فى حكم القاهرة، أما الكتاب فهو "الفاشوش فى حكم قراقوش".

 

كان قراقوش رجلا عسكريا يجيد أعمال التشييد والبناء، ويكفيه فى هذا المجال بناءه لقلعة الجبل وسور مجرى العيون الذين كان يستخدم فى رفع المياه إلى القلعة، لكن تواجده فى لحظة تاريخية مفصلية تتحول فيها الدولة المصرية من حكم شيعى على يد الفاطميين إلى حكم سنى بقيادة صلاح الدين، جعله هدفا للسخرية ومحط اللعنات، خاصة أنه كان مسئولا عن تصفية مظاهر حكم الفاطميين من مصادرة للاموال والقصور وبيع العبيد، وجاء رجل يدعى "أسعد بن مماتى" - ربما كان منافسا لقراقوش على السلطة - نقل لنا صورة مظلمة عنه فى كتاب أسماه "الفاشوش فى حكم قراقوش" فكان سببا فى شهرة الاثنين، وصار ذلك الكتاب أشهر مؤلفات ابن مماتى برغم أن له مؤلفات أهم بكثير . و لم يكتف الناس بما ورد فى الكتاب بل أضافوا إليه قصصا ونوادر تنسب لجحا وغيره وألصقوها بقراقوش .

 

لا جدال أن قراقوش أشتهر بالصرامة، إلا أن هذا أمر طبيعى، فمن المؤكد أن قائدا عسكريا يحكم عاصمة دولة تحارب دولا متعددة و تخوض غمار حرب طاحنة ويغيب رأسها عنها لانشغاله بقيادة جيوشه لابد وأن تؤدى بنائبه إلى انتهاج الشدة وربما العنف فى التعامل حفاظا على الجبهة الداخلية – بلغتنا المعاصرة - وحماية لها، وربما لو كنا مكانه لاعلنا الاحكام العرفية أو اصدرنا - على الأقل - قانونا للطوارئ،  وهذا بالطبع لابد وأن يخلف بعض الجروح من حوادث ظالمة لبعض العباد،  لكن البلاد فى حالة حرب . وبرغم شدة قراقوش الا ان معظم المؤرخين ذكروه بالخير و لم يذكروا فى ترجمته وقائع كالتى جاءت فى الكتاب .

 

وفى اعتقادى أن المصريين استخدموا قراقوش هدفا بديلا عن صلاح الدين لسخريتهم،  فمن الصعب السخرية من الحاكم الذى يقود جيشه فى حرب لها مسحة دينية،  ليس هذا فقط بل يحقق انتصارات فى تلك الحرب و يستعيد اماكن لها قدسية و مكانة دينية عند الشعب، ولذا ففرصة تقبّل الجموع للسخرية منه تكاد ان تكون معدومة و ليس لها سبيل للانتشار، ولذا كانت ( الحيطة الواطية ) هى قراقوش .. ويظل السؤال: بعيدا عن الكتاب الذى نقل للمعاصرين صورة ظالمة،  هل كانت صورة قراقوش فى عصره بذلك السوء ؟ ام ان معاصريه قدروا له منجزاته الهندسية و صموده طويلا فى حصار الفرنجة لعكا ؟ هل كانت قصة أسره فى حسبانهم و هم يسخرون منه ؟ أم أن كل السخرية كانت عابرة للعصور ولكنها لم تكن مؤثرة فى عصره ؟

 

وهكذا نجد أنفسنا أمام أكبر عملية تزييف للتاريخ أَستعملت فيها عصا المصريين "السخرية".

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

اعرف هتدفع كام إيجار سنويا طول مدة الفترة الانتقالية في قانون الإيجار القديم

طلاب "تكنولوجيا بنى سويف" ينجحون فى تصنيع ماكينة تشكيل الألومنيوم كاملة.. الماكينة تنتج القطعة فى دقائق مقارنة بالشغل اليدوى.. والطلاب المشاركون: سننفذها كمشروع نبدأ به حياتنا العملية.. فيديو

اعترافات المتهمين بالتشاجر بسبب توك توك في مدينة 6 أكتوبر

مواعيد مباريات اليوم الأحد 17 - 8 - 2025 والقنوات الناقلة

مواعيد مباريات الجولة الثالثة للدوري المصري الممتاز


جثمان الراحل تيمور تيمور يغادر المستشفى متجها إلى القاهرة

فيريرا بعد التعادل مع المقاولون: محبط من النتيجة وحالة الملعب لم تساعدنا على الفوز

من هو مدير التصوير الراحل تيمور تيمور؟

اللحظات الأخيرة فى حياة تيمور تيمور.. أنقذ ابنه من الغرق قبل وفاته غرقا

أهم الأخبار الفنية على مدار الساعة..المتحدة للخدمات الإعلامية تنعى مدير التصوير تيمور تيمور.. وفد وزارة الثقافة ونقابة الممثلين يزور نجوى فؤاد فى منزلها بعد استغاثتها.. هنادى مهنا تعيش نشاطا فنيا بمسلسل وفيلمين


صرخات سيدة: عامان لم أتقاضي جنيها من نفقات أولادي بسبب بخل زوجي

موعد آخر موجة حارة فى صيف 2025.. الأرصاد تكشف حقيقة بداية الخريف

سماع دوى انفجار فى منطقة المزة بالعاصمة السورية دمشق

استشهاد فلسطينيين اثنين من منتظري المساعدات برصاص الاحتلال الإسرائيلي

خريطة العام الدراسى الجديد 2026.. موعد بدء الدراسة والامتحانات والإجازة

وفد من وزارة الثقافة ونقابة الممثلين يزور نجوى فؤاد فى منزلها بعد استغاثتها

مقتل عاطل على يد آخر بسلاح أبيض في باكوس الإسكندرية

فيلم ريستارت يحتل المركز التاسع ضمن قائمة الأفلام الأكثر تحقيقًا للإيرادات

حصاد الوزارات.. وزارة التعليم: حظر تحصيل أية مبالغ مالية من أولياء الأمور

الأهلي يكشف حقيقة إصابة محمد علي بن رمضان فى مباراة فاركو

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى