مّن فجّر الكنيسة قبل أن أجدل السعف؟

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت
بقلم - فاطمة ناعوت
الأحد الماضى، أهدونى عيدانَ سعفٍ بكرٍ من نخيل أخضرَ، وورودًا بيضاءَ من حدائق قلوبهم، تكفيى لأُشيّد مدينةً وارفةً من المحبة. ثم كسوا أرضَ مصرَ بدمائهم البريئة وهم ناظرون إلى السماء يُصلّون. واليوم يحتفلون بعيد القيامة المجيد، بعد أسبوع الآلام الذى علّمنا فيه أقباطُ مصر، كيف يزدادون تحضرًا وسُموًّا، ومحبة، وغفرانًا.
 
حدث أن غادرتُ القاهرة إلى دولة الإمارات قبل أسبوعين. فتزامن وجودى هناك مع أحد السَّعف، أو «عيد الزَّعف» كما كنّا نسميه حين كنّا صغارًا نجدل عيدانَه معًا فى مدارسنا، مسلمين ومسيحيين، لا تُفرّق بيننا عقائدُ، وتجمعنا مصرُ فى قلبِها على رباط المحبة الأبدى. يحمل لى هذا العيدُ ذكريات طفولية طيبة، شأنى شأن كل المصريين من جيلى ومن الأجيال السابقة، وربما اللاحقة.
 
عشيةَ العيد، الأسبوع الماضى، كنتُ قد تأخرتُ فى الحصول على شىء من سعف النخيل، لأجدل بعض الأشكال الجميلة التى أُهديها إلى أطفالى وأصدقائى وأُزيّن بها جدران بيتى، كما تعوّدتُ منذ طفولتى وحتى هذا العام. لم أخلف عهدى مع السعف عامًا، ولا أخلف السعفُ عهدَه معى فى أى عام.
 
عصر السبت قبل الماضى، اتصلتُ بالأستاذ رأفت إسكندر، سفير النوايا الحسنة بالأمم المتحدة، صديقى المصرى المقيم بالإمارات، وطلبتُ منه بعضَ عيدان السعف من أجل الغد. فقال لى: «انسى.. السعف كله خلص من إمبارح!» كانت الساعة تقترب من الخامسة عصرًا، ومضى بائعو السعف إلى بيوتهم، بعدما نفدت بضاعتُهم. ولما لمح الحزن فى صوتى، أخذنى فى سيارته وأسرع إلى كاتدرائية الأنبا أنطونيوس للأقباط الأرثوذكس، بمدينة أبوظبى، وهى كنيستنا المصرية بدولة الإمارات، فى محاولة يائسة للحصول على سعفة أو اثنتين. وهناك التقينا بأشقائنا المصريين الذين فرحوا بوجودى، وبهم شعرتُ أننى فى مصر. ومن حقيبة كل منهم، كانت تُطلُّ باقات من عيدان السعف، يُخبئها عن العيون، حتى يختلى إلى نفسه فيجدل لأسرته ولأصدقائه تمائم خيرٍ للعام الجديد. كانوا كرماءَ حين عرفوا سؤالى. فتبرّع كلٌّ منهم بحزمة، حتى صار لدىّ ما يكفى لبناء مدينة خضراء من المحبة، ثم أهدانى السفير رأفت وردةً بيضاء مضفورة فى جريدة سعف، لأُكمل مدينتى.
 
فرحتُ بكنزى الوفير الذى فاق ما تمنيت. فحملتُه جرّتى ووقفتُ عند ساحةٍ مظلّلة، يلتقى عند جناحيها مسجد وكنيسة، حيث يقفُ المسلمون والمسيحيون يتصافحون ويتمنى بعضهم لبعض فيضًا من رضوان الله وبركته. أبهجنى المشهدُ، فالتقطتُ بعض الصور. وانتظرتُ حتى أشرق يوم الأحد لأكتب على صفحتى هذا البوست:
 
«هنا الإمارات فى أحد السعف، دى الكاتدرائية المصرية فى أبوظبى، يجاورها مسجد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان. الجميع بيتقابلوا يسلمول على بعض ويبتسموا على بعض ويهدون بعض ورود، وبعدين يدخلوا يصلوا كل واحد فى دار عبادته. ولما يخرجوا يسلموا على بعض تانى ويبتسموا لبعض تانى ويروّحوا وهما مبسوطين وفرحانين». مسجدٌ ليس عليه حراسة. كنيسة ليس عليها حراسة. فى هذا البلد الجميل، عباد الله يعبدون الله، كلٌّ وفق معتقده دون أن يخاف بعضُهم البعضَ، أو يُخيف بعضُهم البعضَ، أو يبغض بعضُهم البعضَ. الكلُّ يحب الكلَّ، والكلُّ يأمن الكلَّ، لأن الجميعَ يحبون الَله فيحبون خلقَ الله. لا حراسة على أى دار عبادة هنا، حتى المعبد الهندوسى والمعبد البوذى بلا حراسة، لأنه لا تهديد ثمة، فكل إنسانٍ حرٌّ ويحترم حرية الآخر، هنا بالإمارات مجتمعٌ صحى، مجتمعٌ طبيعى، وتلك الأمور عادية، غير العادى هو وجود فرد أمن مسلح يحمى دار عبادة! يحميها ممَ؟! لماذا هى مهددة أصلا؟! معلش.. بكرا أجمل بإذن الله يا مصر». ثم أنهيتُ كلامى بأمنية تقول: «كل سنة وأنتم طيبين وأحد سعف جميل عليكم وعلى مصر الحلوة».
 
لم أكن أدرى أن ذلك الأحد لن يكون جميلا على مصر. ولم أكن أدرى أننى لن أجدل السعف لأول مرة فى حياتى. بعد نشر البوست بدقائق بدأت الأخبار الكابية تتقاطر فوق رأسى تقاطرَ صخور جبل يتصدّع فوق غصن نحيل. شهداءٌ مسيحيون جددٌ، كانوا قبل برهةٍ أحياءً يصلّون لربّهم آمنين فى كنائسهم. صائمون ينتظرون عيدهم الذى يحلُّ اليومَ، وقد أشرق على وجوههم وهم فى رحاب الله ورحمته. مادت بى الأرضُ وعشت يومين من أعسر ما مرّ بحياتى. ولم أستردّ أنفاسى إلا بعدما كتبتُ «إقرار الذمّة» الذى قرأتموه على صفحتى الأحد الماضى، وأهديته إلى أقباط مصر الذين قال فيهم القرآن: «وقَفَّيْنا بِعِيسَى ابنِ مريمَ وَآتَيْنَاه الإنجيل وجعلْنَا فى قلوبِ الذين اتَّبَعُوه رأفةً ورحمة». من أين يأتون بكل تلك الرأفة والرحمة والمغفرة لمن أساء؟! هى من عند الله.
 
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل ويفعلُ السفهاءُ منّا فى حقّ أقباط مصر. اللهم افصل بيننا وبين لصوص الفرح الذين يُحولون أعيادنا جنائزَ ومراسم عزاء، الذين خضّبوا السعفَ الأخضر بقطرات الدم البرىء.
Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

ترامب: بوتين لن يسيطر على أوكرانيا فى وجودى

إعفاء طلاب الثالث الإعدادى بالعامين الدراسيين 2026 و2027 من أعمال السنة

وزير التعليم يعلن تطبيق أعمال السنة على الصف الثالث الإعدادى

قرار مهم لوزير التربية والتعليم بعد قليل

صحتك بالدنيا.. نصائح لكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة للحماية من الموجة الحارة.. دراسة تكشف أسباب تمتع بعض المسنين بذاكرة خارقة.. مكملات غذائية تتفاعل مع أدويتك.. وأطعمة تجنبها وأخرى تناولها أثناء علاج السرطان


رغم جاهزية اللاعب .. إمام عاشور خارج مباراة الأهلى وفاركو

كريم محمود عبد العزيز ينشر صورة مع زوجته ويتغزل فيها: بحبك

الأرصاد تحدد موعد انكسار الموجة الحارة وتحذر من أمطار رعدية.. فيديو

النيابة تنتقل لفحص كاميرات موقع حادث مطاردة سيارة لفتيات على طريق الواحات

رئيس الموساد: إسرائيل عازمة على احتلال غزة إذ لم تحدث انفراجة فى المفاوضات


موعد مباراة الأهلى أمام فاركو فى الدوري المصري والقناة الناقلة

وزير خارجية بريطانيا يبلغ عن نفسه بعد رحلة صيد مع نائب ترامب بسبب "سنارة"

ترتيب الدورى المصرى قبل انطلاق الجولة الثانية.. المصرى في الصدارة

مصابة بحادث طريق الواحات أمام النيابة: الشباب طلبوا منا النزول من السيارة

الإعدام شنقا للمتهم بقتل زوجته حرقا فى الشرقية

اتحاد الكرة يرد على شكوى الزمالك ضد زيزو ..اعرف التفاصيل

النيابة تستدعى مصور حادث مطاردة سيارة فتيات طريق الواحات لسؤاله حول الواقعة

بيراميدز يتفوق على الإسماعيلى فى المواجهات قبل لقاء اليوم بالدورى

انتحار طالب فى الشرقية لسوء حالته بعد رسوبه بالثانوية الأزهرية

عادل أحمد هداف ناشئى اليد فى بطولة العالم حتى الآن برصيد 21 هدفا

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى