ياسر منجى يكتب: الحاجّ نبيل جَمَل المَحامِل

صورة أرشيفية .. لجمل المحامل
صورة أرشيفية .. لجمل المحامل
فى العشرين من يوليو عام 1949، الموافق الخامس والعشرين من رمضان عام 1368 هـ، فقَدَت "مصلحة الكسوة الشريفة" المصرية موظفاً مرموقاً من موظّفيها، إن لم يكُن أشهرهم على الإطلاق آنذاك، وهو "الحاجّ إمبابى"، الذى كان قد أمضى فى وظيفتِه ست سنوات، زار خلالهما مكة والمدينة ست مرات.
 وبرغم لقب "حاجّ" الذى كان يزهو به، لم يكن عُمر "إمبابى" يزيد عن ثلاثة عشر عاماً عند وفاتِه! غير أنه كان يتمتع برعاية مباشرة من "محمد شلبى"، مدير "مصلحة الكسوة الشريفة" آنذاك، ويتولى رعايته والقيام على شؤونِه سكرتير خاص، كان يُدعى "الحاجّ خليل الرهيوى".
 ولم تتوقف مظاهر الرعاية والحفاوة التى كان "الحاج إمبابى" يتمتع بها عند هذا المستوى فقط، بل تجاوزَته إلى مستوىً رفيع من الرعاية المَلَكية، إذ كان المندوب الشخصى لِمَلِك البلاد يأتى خصّيصاً فى كل عام، ليتولى بنفسِه توديع "الحاج إمبابى" عند الشروع فى سفرِه إلى الأراضى الحجازية، وكان هذا المندوب عادةً رئيس وزراء مصر!
 كان هذا التكريم، ببساطة، لأن "الحاج إمبابى" هو "جمل المَحامِل" – جمع "مَحمَل" – أى أنه كان الجمل المخصص للقيام بشرف حَمل كسوة الكعبة المُشَرّفة، سنوياً، مِن مقر صناعتها فى "دار الكسوة الشريفة"، التى كانت قائمةً بحى "الخرُنفُش" العريق بالقاهرة، إلى مستقرّها المقدس، حيث تُسدَل على جدران بيت الله الحرام.
 وبِوفاة "إمبابى"، كان على إدارة "مصلحة الكسوة الشريفة" أن تجدَ بديلاً صالحاً، ومؤهَّلاً لنيل شرف الاضطلاع بهذه المهمة رفيعة المستوى، بعد استيفاء ثلاثة شروط عامة أساسية، وهى: أن يكون خالياً من الأمراض والعيوب الجسمانية، وأن يكون متين البِنية قوى العضلات؛ بحيث يستطيع حمل خمسة أرادب من القمح ويسير بها دون مشقة، وأن يكون شاباً صعيدى المَولِد!
 غير أن استيفاء هذه الشروط الثلاثة لم يكن بالأمر الميسور؛ إذ كان التحَقُّق منها يتم وفق اختبارات صارمة، تجرى ضِمن إجراءات إدارية دقيقة، وقد تداولَت كُبريات صُحُف القاهرة وقتها طرَفاً من وقائع هذه الاختبارات والإجراءات، التى بدأت حين بادرَت "مصلحة الكسوة" بإبلاغ وزارة الزراعة، ليُسارِع مدير إدارة الطب البيطرى فيها إلى تكليف جميع أطبائه، فى جميع أنحاء البلاد، بالبحث عن جمل تتوفر فيه الشروط، ليتحمل أعباء الوظيفة وتَبِعاتِها.
 وجاءت الأخبار من الصعيد، لقد وجدوا مجموعة من الجِمال متينة البِنية فى مُديرِيَّتَى "جِرجا" و"أسيوط"، فأوفَدَت "مصلحة الكسوة" مندوباً لفحصِها، هو "الحاجّ خليل الرهيوى"، سكرتير جمل المَحمَل ورائِدِه وقائِدِه، فأقام فى المُديرِيَّتين خمسة عشر يوماً، وهو يتنقل من بلدة إلى أخرى، بصُحبة الطبيب البيطرى "سمعان الرشيدى". وأخيراً اختار الخبيران ثلاثة جمال: جمل من "أبو تيج"، وجمل من "الدوير"، وجمل من "أسيوط".
 وتَلَقَّت وزارة الزراعة الخبر، فأوفَدَت لجنة إلى الصعيد لاختبار الجِمال الثلاثة واختيار أكفئها. وكانت تلك اللجنة مؤلفة من "وكيل قسم الأوبئة" بإدارة الطب البيطرى، ومُحَلِّل بكتريولوجى. وفُحِصَ الجمل الأبوتيجى، وحُلِّل دمُه، فكان غير نقى. وفُحِصَ الجمل الأسيوطى، فاتضح أنه ضعيف السيقان. ونجح الجمل الدويرى فى الامتحان، فاشترته "مصلحة الكسوة" بمائة واثنَى عشر جنيهاً، وانتقل إلى العاصمة!
 واستقبَلَت "مصلحة الكسوة" "جمل المَحمَل" أحَرّ استقبال، وسَمَّته "نبيل"، وخَلَعَت عليه لقب (الحاجّ). وكان "الحاجّ نبيل" فى الخامسة مِن عُمرِه حين التحق بخدمة "مصلحة الكسوة الشريفة"، ليصير واحداً مِن أشهر جِمال المَحمَل خلال النصف الأول من القرن العشرين، ونجماً تحتفى الصحافة بأخبارِه وصُوَرِه سنوياً، بالتوازى مع الاستعداد لعيد الأضحى وموسم الحَجّ من كل عام، حين كان يتبختَر فى أبهى زينة، حاملاً كسوة الكعبة المُشَرَّفة، ومحفوفاً بالعروض الموسيقية، التى كانت تطوف شوارع القاهرة احتفالاً بموكب "المَحْمَل". 
 وكان "المَحمَل" – أو "المحمَل الشريف" – عبارة عن هَودَج مغطّى بعدة قطع من القماش، المزخرف بالآيات القرآنية، ضِمْن موكبٍ مصاحب لقافلة الحَجيج الخارجة من القاهرة. وكان هذا المحمل يحوى عادةً أستار الكعبة المشرفة (الكسوة)، وهدايا قَيِّمة للحرمين الشريفين. وكان الموكب يطوف شوارع القاهرة، يصاحب طَوَفانِه العديد من الاحتفاليات، كتزيين المحلات التجارية، والرقص بالخيول. وخلال فترة طويلة من تاريخ مصر، كان حاكم البلاد يحضر خروج المحمل بنفسه، أو يُنيب عنه من يقوم بذلك فى حالات الضرورة.
 ولكُسوة الكعبة تاريخٌ حافلٌ بالوقائع والتحولات؛ إذ يُرَجِّح باحثون كُثُر أن الملك اليمنى "أسعد تُبَّع أبى كَرِب" ملك حِمْيَر، هو أول من كسا الكعبة المشرفة بشكل كامل فى العام 220 قبل هجرة النبى صلى الله عليه وسلم. ثم أخذت قريش فيما بعد تتولى هذه المهمة، وكانت تقسم أموال كسوة الكعبة على عشائرها الكُبرى. وبعد فتح مكة، وفى أول عام يحج فيه المسلمون - العام التاسع من الهجرة - أصبحت كسوة الكعبة مهمة بيت المال فى المدينة المنورة.
 وبدأ ارتباط مصر بصناعة الكسوة، ومن ثَمّ بإرسال المحمَل، فى عهد ثانى خلفاء المسلمين عمر بن الخطاب رضى الله عنه؛ إذ كان يوصى بكسوة الكعبة بالقماش المصرى المعروف بـ(القباطى)، الذى اشتهرت الفيوم ودمياط ومناطق من الصعيد بصناعته. وقد تعاقَبَت على إرسال الكسوة من مصر فترات من الانتظام والتوقف، خلال الحقبة الممتدة من هذا العهد إلى قرابة منتصف القرن العشرين، حيث كان مسار المحمل ومكان خروج الكسوة يتوقفان فى أحيانٍ كثيرة على طبيعة العلاقات الجيوسياسية، التى كانت تميز بعض الفترات التاريخية، ومن أبرزها فترة حكم سلاطين العثمانيين. ومن أمثلة ذلك، أنه بعد قيام "الشريف حسين" بثورته الحجازية عام 1916م، لم يعُد للسلطان العثمانى سُلطة على الحجاز، وبرغم ذلك تمكن السلطان "محمد السادس" (وحيد الدين) من إرسال المحمل عن طريق الشام عام 1917م.
 وظل إرسال الكسوة يمر بفتراتٍ من الانتظام والانقطاع بسبب مثل هذه المؤثرات، إلى أن توقف إرسالها من مصر نهائياً عام 1962، وتم حل "مصلحة الكسوة" بإداراتها المختلفة. ومِن ثَمّ، بدأت صناعة الكسوة تتمركز فى المملكة العربية السعودية، اعتباراً من ذلك التاريخ وحتى اليوم، لينتهى زمن "الحاجّ نبيل"، و"الحاجّ إمبابى"، وأسلافُهُما مِن جِمال المَحامِل العَفِيّة.
 
 

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

منتخب الشباب يختتم استعداداته لمواجهة نيجيريا على المركز الثالث بأمم أفريقيا

قطار تالجو.. مواعيد وأسعار الرحلات على خطوط السكة الحديد

موعد مباراة الزمالك وبتروجت المقبلة فى الدورى والقناة الناقلة

ريفيرو يحضر مباراة الأهلي والبنك باستاد القاهرة اليوم فى بطولة الدوري

الأهلى وبيراميدز الأبرز.. 4 مراكز تشعل المنافسة بين 10 أندية فى الدوري


مجوهرات الأسرة العلوية قطعة أثرية براقه تقدم لمحات فنية داخل متحف آثار الغردقة.. أبرزها تاج من الذهب مرصع بفصوص من الألماس واللؤلؤ الطبيعى.. وقلادة مبرة محمد على وأوسمة ملكية شهرية ذات قيمة تاريخية نادرة.. صور

انطلاق منافسات نصف نهائي بطولة العالم للاسكواش بمشاركة 5 مصريين

مواعيد مباريات اليوم فى الدوري الممتاز والقنوات الناقلة

أجمل شواطئ مصر فى مطروح والساحل الشمالى تستعد لاستقبال عشاقها.. مدينة مرسى مطروح عاصمة المحافظة تتجمل لاستقبال ملايين المصطافين.. أجهزة المحافظة تستعد لبداية المصيف عقب امتحانات النقل بالمدارس.. صور

يوفر 3715 فرصة عمل.. أبرز المعلومات عن ملتقى توظيف مصر بالقليوبية


رويترز نقلا عن إن بي سي نيوز: إدارة ترامب تعمل على خطة لنقل مليون فلسطيني لليبيا

محامى أسرة العندليب: مستعدين تقديم خطابها لأى جهة لفحصها وبيان صحتها

الميليشيات المسلحة فى طرابلس تطلق الرصاص على متظاهرين يطالبون بإسقاط الدبيبة.. فيديو

تعثر صفقة انضمام لويس هنريكي إلى الإنتر بسبب يوفنتوس

شقيقة سعاد حسنى عن الخطاب المنسوب للسندريلا: مش خطها والورقة تبدو حديثة

تعرف على نص رسالة إبراهيم سعيد من محبسه إلى الجمهور عقب أزمته الأخيرة

رسميا.. وادى دجلة والمقاولون يصعدان للدورى الممتاز وأبو قير يكتسح السويس

حاملة الطائرات الأمريكية هارى ترومان فى طريقها لمغادرة الشرق الأوسط

الأهلي يكلف ريفيرو باختيار الصفقة الأجنبية الوحيدة خلال ميركاتو الصيف

البنك المركزى يعلن عن وظائف جديدة.. اعرف التفاصيل

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى