معاوية بن أبى سفيان حاكم الشدة واللين.. خرج من رحم الفتنة بدولة هى الأكبر والأكثر اتساعاً فى التاريخ الإسلامى.. حوَّل الصراع المحتدم وهجمات الخطر إلى كيان متماسك استمر قائماً لمدة 88 عاماً كاملة

دور الفرد فى التاريخ
مضت مواكب التاريخ تتقدمها دول وتتأخر فيها غيرها، وبين حقبة وأخرى تتبدل المواقع، ويتقدم المتأخرون والعكس. ولأن الدول تتأسس على ركائز اجتماعية عمادها البشر، فحركة التاريخ إنما هى فى جوهرها توثيق لحركات البشر.
وعلى امتداد كتاب الزمن المفتوح لمعت بلدان وتألق نجمها، وكان لبعض أبنائها فضل فى هذا اللمعان، بقدر تميزهم الفردى الواضح وقدرتهم على الاندماج فى جماعتهم وسياقهم.
وعلى امتداد أيام رمضان نفتح تلك المساحة لاستضافة باقة من رموز التاريخ القديم والحديث، ممن لعبوا أدوارا عظيمة الأهمية والتأثير، وقادوا تحولات عميقة الفعل والأثر فى مجتمعاتهم، وربما فى العالم وذاكرته ووعيه بالجغرافيا والزمن والقيم، فكانوا مصابيح مضيئة فوق رؤوس بلدانهم، حتى أننا نراها اليوم ونستجلب قبسا من نورها، تقديرا لأدوار فردية صنعت أمما وحضارات، ولأشخاص امتلكوا من الطاقة والطموح والإصرار ما قادهم إلى تغيير واقعهم، وإعادة كتابة التاريخ.
معاوية.. طموح القيادة ينتصر على الفتنة
لن ينسى التاريخ من ضمن هؤلاء اسم «معاوية بن أبى سفيان» الحاكم الذى وضعه المؤرخون فى موضع المنتصف بين الحلم والشدة، فهو لم يكن رجلًا سهل التصنيف، بدأ حكمه فى فترة سياسية عصيبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، الدولة على شفا بركان، تناثرت شظاياه وطالت آلاف المسلمين الذين سفكت دماؤهم فى المعارك بينه وبين «على بن أبى طالب».
معاوية يتولى الخلافة على صفيح ساخن
من زخم هذه الأحداث التى لم تنته بنهايتها، بدأ حكم «معاوية» متوترًا مرتبكًا، نخرت الفتنة بنيان الدولة على مر سنوات الصراع منذ اندلاعها فى عهد عثمان بن عفان، يملأ الغضب النفوس، وتتصاعد المؤامرات الجانبية على أطراف الدولة وحدودها المترامية، الجيوش فى حالة من الإنهاك بعد معارك دامت لسنوات قتل فيها المسلمون بعضهم بعضًا تحت راية الإسلام، أما المجتمع ففى حالة انقسام بين من بايعوا معاوية على الموت، ومن قبلوا خلافته كارهين أنصار «الحسن» وشيعة علىّ، تتصاعد نوايا الثأر الكامنة حتى هدوء الأوضاع، ينتظر «الخوارج» الفرصة للانقضاض، بينما يواجه «معاوية» تحدٍّ هو الأخطر فى احتواء الفرق المنقسمة وحماية ما بقى من الدولة من التفكك، كيف خرج معاوية من رحم هذه الفتنة بدولة وصفها المؤرخون بالأكبر والأكثر اتساعًا فى التاريخ الإسلامى؟، كيف حول هذا الصراع المحتدم وهجمات الخطر المرتقبة إلى كيان متماسك استمر قائمًا لمدة ثمانى وثمانين عامًا كاملة؟، كيف هو الرجل الذى رمم أمة مزقتها الفتنة، ليحولها لإمبراطورية امتدت من حدود الصين شرقًا حتى جنوب فرنسا غربًا ووصلت لأفريقيا والأندلس وحدود السنغال وبلاد ما وراء النهر؟، أى عقل تمكن من احتواء ثقافات نصف شعوب الأرض ليوحدهم تحت لواء الدولة الإسلامية، وكيف كُتب لإمبراطوريته الاستمرار على النهج نفسه لعشرات السنوات بعد رحيله، وارتبط اسمه بالجدل الذى لم تخفت ثورته حتى يومنا هذا فى نقاشات التاريخ الإسلامى.لماذا لم يكن «معاوية بن أبى سفيان» حاكمًا عاديًا؟
للوقوف على أسرار شخصية بحجم «معاوية بن أبى سفيان» كقائد ومقاتل، يجب الرجوع إلى هذا الفتى الذى نشأ فى أسرة لها ما لها من الشهرة والقوة بين سادة قريش، زرع فيه والداه منذ طفولته أحلام القيادة والتوسع، فمن بين قصص طفولته روى أن أبا سفيان نظر إليه وهو طفل وقال «إن ابنى لعظيم الرأس، وإنه لخليق أن يسود قومه»، بينما لم تكن والدته «هند بنت ربيعة» ترضى بسيادته لقومه فحسب، بل تطلعت إلى ما هو أبعد عندما ردت على مقولة أبيه قائلة «قومه فقط؟ ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة».كيف نهضت الدولة الأموية من بين أنقاض الفتن؟
بعد الصلح بين معاوية بن أبى سفيان «والحسن بن على بن أبى طالب» الذى رفض القتال وتنازل للحكم عن معاوية عام 41، بدأ «معاوية» فى خوض التحدى الأصعب لترميم ما صدعته الفتنة، انتهى عهد الحروب، وجد «معاوية» نفسه أمام هذه التركة الثقيلة، فوضع الأسلحة جانبًا، وخفض الأصوات التى مازالت متأثرة بما حدث مع «علىّ بن أبى طالب»، وبدأ حلقة طويلة من سياسات توازن القوى، وإعادة بناء القيادات وضبط أماكنها، اتجه لتأمين دولة مصر التى كادت أن تضيع أثناء النزاعات بعد أن أعلنت تمردها فى أعقاب تولى علىّ بن أبى طالب الخلافة، ثم اتجه بعدها لسياسة أكثر حكمة بحفظ التوازن بين قيادات القبائل العربية المختلفة، تجنبًا لثوراتهم أو انشقاقهم عن الدولة الأم، كما استغل «معاوية» فى بداية إنشاء دولته كروته الرابحة التى راهن عليها فأثبتت رجاحة وجهة نظره، وأبرزها أهل الشام التى ظل واليًا عليها بالكامل لمدة قاربت العشرين عامًا، فكان يضمن تمامًا ولاء أهلها له، والتفافهم خلفه، وكان دائم اليقين بأن أهل الشام فى عونه إن احتاجهم، وفى الوقت نفسه لم يعط «معاوية» أهل الشام فضلًا وامتيازات عن باقى الولايات، لأنه كان يدرك جيدًا حساسية خصومه ومعارضيه، والمتأثرين باغتيال «علىّ» كرمز من رموز بيت النبى.قرارات حاسمة فى الوقت المناسب
بين طيات الصلح الذى عقده معاوية بن أبى سفيان مع الحسن بن علىّ بن أبى طالب، كان هناك ثمة اتفاق على أن يعود الحسن لتولى الخلافة بعد انتهاء عهد معاوية، ما يثبته التاريخ هو أن معاوية كان واعيًا لهذا البند وعيًا كاملًا، وعمد إلى تمريره للوصول إلى الحكم بعد صراع طويل مع «علىّ»، فما كان منه سوى أن اتخذ قرارًا حاسمًا بعد توليه الخلافة يقطع الطريق على المتآمرين على السلطة، أو أصحاب الأطماع من تكوين جبهات تستعد للسيطرة على الخلافة بمجرد انهيار حكم معاوية.كيف أحكم معاوية مفاصل دولته من الداخل؟
انتظمت الدواوين، واستقرت الأوضاع بشكل نسبى، اختار معاوية ولاته بحنكة، وأمن حدود دولته جيدًا، قبل أن ينتقل للقضاء الذى عرف طوال عهده بالعدل والنزاهة، ترك «معاوية» فى حركة سياسية ذكية أخرى القضاء لصحابة النبى وأفاضل التابعين، فلم يكن يرغب أن ينحرف الناس عن تعاليم دينهم، كما اختار أن يضع فى هذه الجبهة ذات الأهمية القصوى، أهل ثقة ينظر إليهم الناس نظرة إجلال، فهم صحابة رسول الله وأجدر الناس على الحكم بالعدل فى عهد حاكم عادل.
كيف أكسب «معاوية» دولته مهابة خارجية لا تنكسر؟
يمكن وصف هذا الجزء من حكم معاوية بالفصل الأكثر أهمية وثراء على الرغم من أهمية كل الفصول الأخرى، فكان معاوية فيما يتعلق بسياسة الدولة الخارجية وحشًا شرسًا لا يعرف الرحمة ولا الهوادة، أكسب حكم معاوية على هذه الدولة التى تكونت بالسيف والجهاد على مدار سنوات طويلة، هيبة وجلالًا وقوة تاريخية، فكانت الدولة الأموية تتسع بمرور السنوات، حتى أصبحت الدولة الأكثر اتساعًا فى التاريخ الإسلامى.

Trending Plus