القارئ محمود عبدالعزيز يكتب: "قبل أن يموت أبي"

ورقة وقلم
ورقة وقلم
محمود عبد العزيز
 
 
ماذا أكتب، كان هذا هو السؤال المُلِح أو السؤال الفخ، لحظة عابرة وقف فيها الزمن، وطأطأ القلم رأسه، وشرع يُشاركني حيرتي، وانبريت أتصارع مع نفسي، لأحدث خللاً في الذات، يُعيد إليّ ذاكرتي المهترئة، لكن دون جدوى من ذلك. رُحت أُفكر مليّاً فيما سيخط به قلمي، وأظن أن العالم بأسره بات يترقب حديثي بمجاملة، قد آثرني على نفسه لدقائق معدودات، ولو كان بي خصاصة من اليأس.
 
المشهد الأول:
في الثامنة من عمري، استيقظت باكياً من صراخ أمي المتواصل، وهي توقظني للذهاب للمدرسة، وتقول بصوت صارم، أعلم تباعته جيداً:
-اصحى يا بني حرام عليك، الشمس طلعت، غلبتني معاك.
كنت أنتفض من رقادِ واقفاً، وبعد حصة تبكيت لا تنتهي، أجدها تغمرني بحضٍ ثم تمد يديها بكوب من اللبن، وتجبرني أن أتجرعه دفعة واحدة قبل مغادرتي إلى المدرسة. كنت أندهش وقتها من تناقضاتها العجيبة، مرة تكون حليمة معي، تبادلني الابتسامات والحديث، ومرة أخرى، قوية وعنيدة في قراراتها، فلم أكن حينها طفلاً عاصياً، كنت أرضخ بقول "حاضر" شئت أم أبيت، وليس في ذلك سوى خوفاً من أمي. وظلّ سؤال في ذهني بلا إجابة لسنواتٍ كثيرة، لماذا كانت تعنّفني أمي بتلك القوة، دون أن أقترف ذنب جسيم بحقها؟. ولمّا كبرت أدركت الإجابة، لكني لم أعذر أمي!. فكانت حسب تصوّرها تريدني قوياً، فلم يكن يهويها تلك الميوعة البادية في حديثي ومظهري. ولكني أيضاً لم أفهم حتى اللحظة، ماذا كنت أفعل لأرضيها؟.
أمّا أبي، كان يندفع إليّ بحنوٍ، وسط ذلك الصخب، يُلبي طلباتي دفعة واحدة، دون أن يثير ارتباكي أو يُشعرني بأي حرج. يستقبلني بأذرعه التي تساع العالم كله، يشتملني بكل مفرداتي وتناقضاتي، بنجاحاتي وانكساراتي، بسأمي الذي يسمع ضجيجه وحده، وكأن العالم أصابه خرس فجأة عن عويلي الداخلي. لا أزال أذكر ذلك اليوم، وأنا عائد من المدرسة بملابسي المتسخة، وقد تملكني الرعب وجساً من لقاء أمي، لكنه يُباغتني في طمأنينة، بأن الوضع على ما يرام، فأتنفس الصعداء، وأسرع في تنظيف ملابسي في سرعة بالغة.
 
المشهد الثاني:
بعد خمسة سنوات من السنة الثامنة، سألت أبي في عصر يوم مزهر صيفه، وهو يُعلّمني قيادة السيارة، جزاءً حينما رآني خارج من المسجد بعد صلاة العصر، دون أي تنبيه أو تلويح مسبق. كان قرآن الراديو يتلو سورة سيدنا يوسف عليه السلام، وتحديداً لمّا أوقعوه أشقاؤه في البئر، وتركوه للسيارة.. فسألته بعفوية آنذاك:
-ازاي كان فيه على أيام سيدنا يوسف سيارات!!. هي دي مش تبقى غلطة في القرآن.
لم يضربني، ولم يسخر مني، بل ابتسم، ثم قال: 
-لاء مش غلطة ولا حاجة، المقصود بالسيارة هنا، الناس، وليس العربية. 
قلت في خجل:
-آه.. فهمت.
ثم قال: 
-عايزك أول ما نوصل البيت، تطلع كتاب التفسير وتقرأ تفسير السورة، واللي ماتفهموش قولي عليه وانا اساعدك فيه.. اتفقنا.
أومأت رأسي بنعم، وشرع يسرد ليّ تفاصيل قصة سيدنا يوسف عليه السلام. وبعدما فرغ من حديثه، توقفنا عند بائع فاكهة على ناصية الطريق، اشترينا ما يكفينا من المانجو، غسلناها جيداً، ثم لطخنا أيدنا ووجوهنا بآثارها العظيمة. ولم أنس أن أقص القصص على أخوتي حينما عودنا إلى البيت، كنوعٍ من الاغتياظ، بل زدت بروايات خيالية لم تحدث، حتى اشتعلت المعارك بيني وبين أخوتي لأيامٍ.
 
*
أذكر هذان الموقفان وكلانا على أعتاب الرحيل، هو أقرب أو ربما أنا الأقرب، لا أدري كيف تسير الأقدار على نحوها الدقيق، لكني أكتب تلك السطور بعزيمة مُبهمة في النفس، شيء ما في الأعماق دفعني لها، دون دعوة للتفريط في استدعاء مشاهد أخرى.
في الجراب حكايات كثيرة، لن يتسع المقام لاحتمالها، يُناديني دوماً بـ "يا أستاذ"، فأتساءل، أي أستاذية أحملها أنا، لا أعلم، أنا لم أقدِّم حتى اللحظة رصيداً يؤهلني لهذا، لكنه أب. كنت أشعر بخجل شديد، حين يبتسم أصدقائي وهو ينادي بمسمّاه، يرمقوا أبي وقتها بنظرة إعجاب، وينهالون عليّ بالغمزات.
 
"بابا أنا سبت الشغل".
تكررت كثيراً تلك الجملة، فمثلي لا يُعمّر في مهنة أكثر من عام، فلم أقدر على احتمال ضغطاً نفسياً، يُخرّج أسوأ ما فيّ، فكنت ألوذ بالفرار هرباً إلى الصبر، لكنه كان يقول لي:
-ولا يهمك، بكره هتلاقي نفسك في حاجة احسن.
 
ويحتويني كعادته.
لم يُحمّلنا أبي ما لا نطيقه، بل حمّلناه نحن ما لا يطيقه، ولا يزال صلباً، راسخاً بكلتا قدميه على الأرض، لا يزال أبي بخير، هذا كل ما أردت قوله، هنا يمكنني أن أقف قليلاً، أستريح بتأوه مشحون بقلق، لاستدرك من عمري ما فات، وأكتب سطوراً أخرى قابلة للتأقلم. 
 
إنه صاحبي أو ربما صديقي أو أظنه أخ أكبر، فلا أعلم أيهم يليق به، شعوري به متجدد، ولهفتي الدؤوبة للجلوس معه متسعاً من الوقت، تمنحني ثقة غامرة، فلا باعث لذلك الاحساس الذي يغزوني كل حين سوى شخصه فقط، دون أية ألقاب أخرى، وأمّا كونه، الأب، فما زلت أتحسس المعنى، وكأنّي خرجت من رحم أمي للتوّ.
 
أبتسم، أكتب، أُمدح، أنتصر.. فكلها من نتاج هذا الرجل.
Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

اختبارات القدرات 2025 تبدأ السبت.. هل يمكن استرداد الرسوم حالة الرسوب؟

ريال مدريد يطير إلى نيويورك استعدادا لخوض قمة باريس سان جيرمان.. صور

هدوء ما قبل الإعلان.. آخر تطورات نتيجة الدبلومات الفنية 2025

مدرب الزمالك السابق: يجب أن نمنح جون إدوارد الثقة الكاملة

إعلام أمريكي: بدء اجتماع ترامب مع نتنياهو في البيت الأبيض


الحرارة تصل 42 درجة.. حالة الطقس المتوقعة اليوم الأربعاء 9 يوليو 2025

إحباط تهريب 300 كائن حى نادر بمطار القاهرة.. الأنواع المضبوطة شديدة الخطورة وتنشر أمراضا وفيروسات وبكتيريا غريبة لا نملك أمصالا لها.. وتتسبب فى خسائر فى الثروة الحيوانية

بطل من الحماية المدنية.. مدير إدارة عمليات يصعد على السلم ليساعد في إخماد حريق سنترال رمسيس

فلومينينسي ضد تشيلسي.. جواو بيدرو يدون أول أهدفه مع البلوز "فيديو"

السجن 10 سنوات لـ7 متهمين بدفن شاب حيا داخل ماسورة مياه فى المحلة


القومي للاتصالات: خدمات كثيرة رجعت وتعمل بكفاءة وسنترال رمسيس ليس الوحيد المعتمد عليه

فلومينينسي ضد تشيلسي.. التشكيل الرسمي لنصف نهائي كأس العالم للاندية

فدائي يأكل البسكويت سريعا ويعود للمشاركة فى إطفاء حريق سنترال رمسيس

محمد شحاتة ينتظم فى تدريبات الزمالك عقب الانتهاء من أجازة الزواج

لعدم اكتمال النصاب القانوني.. تعذر الدعوة لعمومية غير عادية لسحب الثقة من الإسماعيلي

موتُ الفجأة لا يُحزِن.. وزارة الأوقاف: تذكرة للأحياء بحتمية الموت وقصر الأمل.. الموت المفاجئ ليس حدثاً محزناً.. رحمة للمؤمن المستعد ونقمة للعاصي الغافل.. وموت الفجأة إنذار لخلع ثوب الغفلة

السجن 15 عاما للسائق المتسبب فى وفاة 19 ضحية على الطريق الإقليمى بالمنوفية

فيريرا يجهز الزمالك بسلسلة وديات قوية في معسكر العاصمة الإدارية الجديدة

إيلون ماسك يخسر 15.3 مليار دولار من ثروته بعد إعلان تأسيس حزب أمريكا

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى