عزيزى ثيو.. إلى أين تمضى الحياة بى؟

أحمد إبراهيم الشريف
أحمد إبراهيم الشريف
أحمد إبراهيم الشريف
فى رسالته الأخيرة التى كتبها فان جوخ إلى شقيقه ثيو قال فيها:
 
"عزيزى ثيو.. إلى أين تمضى الحياة بى؟ ما الذى يصنعه العقل بنا؟ إنه يفقد الأشياء بهجتها ويقودنا نحو الكآبة، إننى أتعفن مللا لولا ريشتى وألوانى هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد، كل الأشياء تغدو باردة وباهتة بعدما يطؤها الزمن، ماذا أصنع؟ أريد أن أبتكر خطوطا وألوانا جديدة، غير تلك التى يتعثر بصرنا بها كل يوم.
 
كل الألوان القديمة لها بريق حزين فى قلبي، هل هى كذلك فى الطبيعة أم أن عينى مريضتان؟ ها أنا أعيد رسمها كما أقدح النار الكامنة فيها.
 
فى قلب المأساة ثمة خطوط من البهجة أريد لألوانى أن تظهرها، فى حقول "الغربان" وسنابل القمح بأعناقها الملوية. وحتى "حذاء الفلاح" الذى يرشح بؤسا ثمة فرح ما أريد أن أقبض عليه بواسطة اللون والحركة... للأشياء القبيحة خصوصية فنية قد لا نجدها فى الأشياء الجميلة وعين الفنان لا تخطئ ذلك.
 
اليوم رسمت صورتى الشخصية ففى كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسي:أيها الوجه المكرر، يا وجه فانسنت القبيح، لماذا لا تتجدد؟
 
أبصق فى المرآة وأخرج... واليوم قمت بتشكيل وجهى من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون..عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن فى اللوحة ناشزة لا حاجة بى إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها.. يظهر أن الأمر اختلط علي، بين رأسى خارج اللوحة وداخلها... حسنا ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟.
 
أرسلتها إلى المرأة التى لم تعرف قيمتى وظننت أنى أحبها.. لا بأس فلتجتمع الزوائد مع بعضها.. إليك أذنى أيتها المرأة الثرثارة، تحدثى إليها... الآن أستطيع أن أسمع وأرى بأصابعي. بل إن إصبعى السادس "الريشة" لتستطيع أكثر من ذلك: إنها ترقص وتب وتداعب بشرة اللوحة...
 
أجلس متأملاً: لقد شاخ العالم وكثرت تجاعيده وبدأ وجه اللوحة يسترخى أكثر... آه يا إلهى ماذا باستطاعتى أن أفعل قبل أن يهبط الليل فوق برج الروح؟ الفرشاة. الألوان. و... بسرعة أتداركه: ضربات مستقيمة وقصيرة. حادة ورشيقة..ألوانى واضحة وبدائية. أصفر أزرق أحمر.. أريد أن أعيد الأشياء إلى عفويتها كما لو أن العالم قد خرج تواً من بيضته الكونية الأولى.
 
مازلت أذكر: كان الوقت غسقا أو ما بعد الغسق وقبل الفجر. اللون الليلكى (يعبر عن الليل) يبلل خط الأفق... آه من رعشة الليلكي. عندما كنا نخرج إلى البستان لنسرق التوت البري. كنت مستقراً فى جوف الشجرة أراقب دودة خضراء وصفراء بينما "أورسولا" الأكثر شقاوة تقفز بابتهاج بين الأغصان وفجأة اختل توازنها وهوت. ارتعش صدرى قبل أن تتعلق بعنقى مستنجدة. ضممتها إلى وهى تتنفس مثل ظبى مذعور... ولما تناءت عنى كانت حبة توت قد تركت رحيقها الليلكى على بياض قميصي.. منذ ذلك اليوم، عندما كنت فى الثانية عشرة وأنا أحس رحيقها الليلكى على بياض قميصي.. منذ ذلك اليوم، عندما كنت فى الثانية عشرة وأنا أحس بأن سعادة ستغمرنى لو أن ثقباً ليلكياً انفتح فى صدرى ليتدفق البياض... يا لرعشة الليلكي...
 
الفكرة تلح على كثيراً فهل أستطيع ألا أفعل؟ كامن فى زهرة عباد الشمس، أيها اللون الأصفر يا أنا. أمتص من شعاع هذا الكوكب البهيج. أحدق وأحدق فى عين الشمس حيث روح الكون حتى تحرقنى عيناي.
شيئان يحركان روحي: التحديق بالشمس، وفى الموت.. أريد أن أسافر فى النجوم وهذا البائس جسدى يعيقني! متى سنمضي، نحن أبناء الأرض، حاملين مناديلنا المدماة..ولكن إلى أين؟.. إلى الحلم طبعاً.
 
أمس رسمت زهوراً بلون الطين بعدما زرعت نفسى فى التراب، وكانت السنابل خضراء وصفراء تنمو على مساحة رأسى وغربان الذاكرة تطير بلا هواء. سنابل قمح وغربان. غربان وقمح... الغربان تنقر فى دماغي. غاق... غاق.. كل شيء حلم. هباء أحلام، وريشة التراب تخدعنا فى كل حين.. قريباً سأعيد أمانة التراب، وأطلق العصفور من صدرى نحو بلاد الشمس.. آه أيتها السنونو سأفتح لك القفص بهذا المسدس :
 
القرمزى يسيل "دم أم النار"؟
غليونى يشتعل: الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادي. للرمادى احتمالات لا تنتهي: رمادى أحمر، رمادى أزرق، رمادى أخضر. التبغ يحترق والحياة تنسرب. للرماد طعم مر بالعادة نألفه، ثم ندمنه، كالحياة تماماً: كلما تقدم العمر بنا غدونا أكثر تعلقا بها... لأجل ذلك أغادرها فى أوج اشتعالي.. ولكن لماذا؟! إنه الإخفاق مرة أخرى. لن ينتهى البؤس أبداً...
 وداعاً يا ثيو، "سأغادر نحو الربيع".
 
اليوم ذكرى رحيل الفنان العالمى فان جوخ، والرسالة من كتاب "المخلص دوما فنست" الذى صدرت ترجمته عن الكتب خان، ويحتوى 265 خطابًا و108 اسكتشات أصلية وصور فى الفترة ما بين 1872 -1890، إعداد ليو يانسن، وهانز لويتن، ونبينكه باكر، ترجمها عن الإنجليزية ياسر عبد اللطيف ومحمد مجدى، تحرير ياسر عبد اللطيف.
 
 
 

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

بكامل صحتها وأناقتها.. أول ظهور للدكتورة نوال الدجوي بعد أزمة أحفادها (صور)

محمد شاهين عن دوره فى مسلسل لام شمسية: وافقت على الفور

موعد قرعة كأس العرب 2025 في قطر بمشاركة منتخب مصر

صندوق النقد الدولى: مصر تحرز تقدمًا ملحوظًا فى برنامج الإصلاح الاقتصادى

قتلى وجرحى فى حادث تحطم طائرة بولاية كاليفورنيا الأمريكية


المحكمة الرياضية تخاطب اتحاد الكرة لطلب توضيحات من أطراف أزمة مباراة القمة

البنك المركزى يقرر خفض أسعار الفائدة بنسبة 1% على الإيداع والإقراض

رئيس المخابرات العامة يلتقى المستشار عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي

رسميًا.. ريال مدريد يعلن رحيل لوكا مودريتش بعد 13 موسمًا و28 لقبًا

الأهلي يتقدم في تصنيف أندية أفريقيا.. وصن داونز يتصدر قبل لقاء بيراميدز


تحذيرات ودعوات للتدخل بعد واقعة عمر مرموش في الدوري الإنجليزي

لا خوف ولا قلق.. نصائح أطباء النفسية لفترة امتحانات بلا أزمات.. للطلاب: إزاى تلم المنهج وتتخطى مشاعر التوتر.. وللأمهات: اعملى وقت لنفسك ومارسى هوايتك.. وخطة فعالة للمذاكرة مع طفل فرط الحركة

نوال الدجوى تتجاهل صراع الأحفاد وتفاجئ الجميع بتصرف لافت.. صور

وزير الزراعة ينفى انتشار فيروس بين الدواجن: تقرير رسمى خلال أيام

موعد مباراة الزمالك وبتروجت في الدورى

التقرير الطبى للدكتورة نوال الدجوى يكشف: "قادرة على إدارة أموالها بكفاءة"

موعد مباراة الأهلي وفاركو فى دوري nile والقناة الناقلة

الزمالك يزاحم الأهلى على صفقة جزار المحلة

مواجهات لا تفوتك فى كأس العالم للأندية 2025 .. الأهلى يبدأ الحكاية

القومية للزلازل: زلزال كريت استمر لأقل من 15 ثانية وسجلنا تابعين حتى الآن

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى