أدهم العبودى يكتب: من أجلكم أنعي نفسي

أدهم العبودى
أدهم العبودى

كان ظنّ الرّاحل "أدهم العبودي" أنّ الأمر بالنسبة للجنوبيين أمثاله ليس أكثر من "فركة" كعب، يُلقي بنفسِه في القطار القادم إلى الشّمال، كي يحلّ ضيفًا على "القاهرة"، العاصمة البرّاقة، وكان يعشم أنّ أحلامه كلّها ستتحقّق، يعشم في "الصُحبة" الحلوة، الحكايات التي يسمعها من هنا وهناك.

ما أتعسه..! إنّ الجنوبيين غارقون في مسألة العشم هذه، تملأهم الأحلام، بل ويعتقدون اعتقادًا راسخًا أنّ قلوبهم نقيّة بيضاء، الحكايات لا تمثّل إليهم إلّا "كلمتين حلوين"، وهم على العكس من هذا التصوّر، ظنّ الجنوبي أنّه وبمجرّد وصولِه إلى العاصمة ستنفتح أمامه أبواب الشّهرة والأضواء وطاقات القدر، لكن هل كان الجنوبي يعرف أنّ أحلامه مصيرها البَدد وأنّ الطّاقة عتمة والأعمار تضيع في عشمٍ وراء عشم؟ هل كان يعرف أنّ الذي طاف البلاد من آخرها لأجلِه ليس أكثر من وهم وأنّه بـ"فركة" كعب آخر سوف يجد عمره انقضى عبثًا والجنوب سوف يصبح ذكرى قديمة وحكاية مؤجّلة لكتابة ما قد يكتبها وهو على فِراش الموت؟

ها قد مات الجنوبي "أدهم العبّودي".

كنتُ أردّد دومًا: لا أريد أن أعرف هذا الرّجل عن قُرب، يكفيني ما أُشيع عنه، إنّه موضع نقد وتحفّظ واستياء مرّة بعد مرّة، سليط اللّسان، عدائي، ولا يحتفظ بمحبٍّ أكثر من مسافةِ لقاءٍ واحد، يثرثر كثيرًا ويخوض في سيرة هذا وكفاءة ذاك واستحقاق مَن لا يملكون أحقيّة بالأساس، ناقمٌ على ما يجري في الحركة الثقافية ومندهشٌ من كونِه واحدًا ممّن لا تجري عليهم هذه المجريات، رغم أنّه كاتب مهمّ، وكتاباته مؤثّرة، وبالطّبع، هذا محض افتراء وتخريف، فلا هو مهمّ، ولا كتاباته يُمكن أن تُصبح يومًا مؤثّرة، اللّهم إلّا في خيالِه.

هل كان أصدقاؤه النّادرون مخطئين حين أمّنوا دومًا على كونِه لا يُطاق، على كونِه مغرورًا منافقًا مدلّسًا ولا يُمكن الدّخول معه في معركةٍ شريفة؟ حين أجمعوا على وصفٍ وحيد؛ "احذره"..!

لا أعرف! لكنّي تخيّلتُه دومًا ضريرًا، لا يستخدم عينيه استخدامهما المُتاح، بل كأنّه أقام فيما بينه وبين الأشياء مجالًا حسيًّا، لا يريد أن يُبصِر، إنّما يستبصِر، وهذه كارثة، بهذا كان يُمكنه الزّعم بأنّ مشاعره تجاه الآخرين صادقة دومًا وصائبة بلا أيّ مجال للخطأ، وإذا احتدم النقاش في مسألة سرعان ما أحاله لمسألةٍ أخرى، تخدِم وجهة نظرِه، التي لا تكون –في الغالب- إلّا قاصرة، ولا تتخطّى أبعد من تفكيرِه المحدود.

حاولتُ، من باب "اذكروا محاسن موتاكم"، أن أعثر على "حسنةٍ" وحيدة يُمكن أن أرثي بها "أدهم العبودي"، بلا جدوى، فقد مات، واشتعلتْ من بعدِ موتِه الآراء، مَن كان يواجهه بمثالبه أفاض أكثر، ومَن كان يخشى لسانَه استتبتْ له الأمور، ولم يعُد يجد أيّ حرج أو مهابة في أن يذكر ما كان عليه "المرحوم"، بل وذهب هؤلاء إلى أنّ "أدهم العبّودي" لن يبقى من سيرتِه إلّا مقالاته التي شنّ بها هجومه على هذا وذاك، لمصلحةٍ قريبة، أو بعيدة، لن يبقى من سيرتِه إلّا "شتيمته" في خلق الله، بالمجّان، ولمجرّد اختطاف القليل من الضّوء عليه وعلى تجربتِه السّطحية، إنّ سيرته في حدّ ذاتها مليئة بالأحداث المؤسفة، فما بين خصام ونزاع، وما بين صراعٍ على جائزة، أو "خناقة" على مؤتمر وندوة وفعالية ما، تذهب سيرته، تختفي، لا تترك أثرًا حميدًا في نهاية الأمر، لا تترك إلّا الترحّم البائس، عليه وعلى أمثاله، ممّن ادّعوا يومًا أنّهم "مبدعون"، وما أبعدهم عن الإبداع، وما أقربهم من الوهم والضلال، عاش "المرحوم" –كما يعيش أمثاله- في بقعة بعيدة من جنوب "مصر"، حيث الفراغ القاتل، وحيث مأساة "الإقليمية" وعدم التحقّق، وحيث الحسد والغيرة من هؤلاء الذين يُقيمون في العاصمة المجيدة، ويحصلون على كلّ شيء، بأسهل الطّرق، ثمّ لم يجد، لا هو ولا غيرِه من المقيمين في المحافظات النّائية، إلّا الفُتات، أيّ كلام والسّلام..! ومنذ متى صار الفتات قليلًا عليه بتجربته الهزيلة؟ ألم يحمد ربه؟ ألم يشكره على ما وصل إليه من مكانة ولو بدتْ مكانة ضئيلة جوار آخرين؟ ألم يعرف أنّه من المحكوم عليهم بالظّل؟ ألم يكن يكفيه أن "البعض" كانوا يصافحونه ويُشعرونه ولو حتّى ببعض الودّ الملفّق؟

كانت كل معارك "المرحوم" خاسرة بالضرورة، إذا بحثت عن صديق يحبّه محبّة خالصة ما وجدت، كلّهم في النّهاية يقيّمونه ويضعون ملاحظاتهم السلبيّة التي لا حصر لها، الغريب في الأمر أنّه يحاول أن يبدو لطيفًا أمام النّاس، يحاول أن يختلط بالحركة الثقافية ويتلاحم معها، لكنّه كان يقتحمها اقتحامًا واضحًا ومريبًا وفجًّا، ينعته البعض بـ"الشّرير"، وينعته آخرون بـ"البذيء" و"الغبي"، ربّما لأنّه لا يعرف من أين تؤكَل الكتف حقيقة، ولم يفكّر أحدهم أن يصفه لا بصفات الطّيبة ولا حُسن المعشر ولا حتّى "الجدعنة" و"الإخلاص"، كلّ الذين يعرفونه عرفوه هكذا، مناضلًا لأجل أوهامه، مثابرًا لأجل منافعه، ومتحاملًا عليهم لأجل لا شيء تقريبًا، إلّا محاولات الظّهور الفاشلة.

كان يُمكن أن يجلس "أدهم العبودي" مع نفسِه قليلًا، نفسه تلك التي هزمته أكثر ممّا هزمته الحياة وهزمه الأصدقاء، كان لابدّ أن يُدرك أنّه خسر أكثر ممّا كسب بسبب عنفه وحدّته وغضبه مع كلّ من يختلف معهم، حتّى بلغ بهم أن يعتبرونه مغرورًا ومتعاليًا، وهم محقّون، لذا، كرهه من كرهه، وعاداه من عاداه، رغم محبّته التي طالما زعم أنّه يحملها للآخرين.

ألم ينبغي أن يتعلّم "المرحوم" المحبّة على أيادي الجميع وأن يسعَى إلى أصدقائه بلا حقد ولا ضغينة وأن يكون جزءًا من محبّتهم الوافرة وأن ينسلخ من ثوب المظلومية المفتعلة التي عاش فيها عمره كلّه؟

كان يُمكن أن ندعو له بالهِداية وهو حيّ يُرزق، اليوم، وهو في عداد الموتى، لا نملك إلّا أن نقول: رحمه الله وكفانا أمثاله.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

خالد دومة: العهد 3 .. صوت هابيل

خالد دومة: العهد 3 .. صوت هابيل الإثنين، 07 يوليو 2025 03:34 ص

الأكثر قراءة

الأهلي يستعجل كريم نيدفيد لتحديد وجهته بالموسم الجديد

اعرف الصح.. دار الإفتاء تواصل حملتها لتصحيح المفاهيم الخاطئة.. وتوضح حكم زيارة مساجد المدينة المنورة والترتيب بين فريضة الفجر وسنته.. وتجيب عن سؤال حول حكم صلاة الصبى المُميّز فى الصف الأول

جيش الاحتلال: رصدنا إطلاق صاروخين من اليمن ونجاح اعتراض أحدهما

منتخب المكسيك بقيادة أجيرى يتوج بالكأس الذهبية بثنائية ضد أمريكا.. فيديو

منى الشاذلى توجه التحية للفنانة الدنماركية ليزا لاتشنيلسين.. اعرف السبب (صورة)


منظمات تدق ناقوس الخطر فى السودان.. انهيار مرافق الصحة وإغلاق نحو 70% منها.. أطباء بلا حدود: الوصول للرعاية الصحية يكاد يكون مستحيلا.. "أنقذوا الطفولة": الهجمات على المستشفيات تضاعفت 3 مرات بالنصف الأول من 2025

ترامب: إيلون ماسك ينحرف تماما عن مساره ويتحول إلى كارثة حقيقية

خيمينيز مهاجم المكسيك يودّع جوتا بطريقته الخاصة فى نهائى الكأس الذهبية

تعرف على الأطعمة المفضلة لدى براد بيت فى تصوير أفلامه

136 ألف مشجع إجمالى جماهير مباريات الأهلى فى كأس العالم للأندية


جيش الاحتلال: استهدفنا موانئ الحديدة ورأس عيسى والصليف ومحطة كهرباء مركزية

وكيل مالكوم يؤكد استمراره مع الهلال السعودي ويكذب شائعات الرحيل

سيف زاهر: الأهلى لديه عروض لـ3 لاعبين بمبالغ تتخطى المليار جنيه وإمام هيجدد

مارسيلو يكشف عن النهائى "الحلم" فى كأس العالم للأندية

الاتحاد السكندرى يترقب رد الأهلى على طلب استعارة عبد الله ضمن صفقة مروان عطية

أشرف حكيمي ورويز يثيران القلق قبل مواجهة باريس ضد الريال في مونديال الأندية

مسلم يطرح أحدث أغنياته "لقيتك شر".. فيديو

الداخلية تضبط سائق سيارة عرض حياة المواطنين للخطر باستعراضات فى شوارع الجيزة

صحتك بالدنيا.. اعرف حقيقة أشهر 10 خرافات عن "السكر".. دراسة تؤكد: ممارسة الرياضة بعد التعافى من السرطان تمنع تكرار المرض.. تحذيرات بريطانية من متحور كورونا الجديد "ستراتوس".. وأعراض "الكوليسترول" لدى الأطفال

استقبال خاص من لاعبي المصري للجزائري منذر طمين

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى