مع رئيس إندونيسيا الثالث: إدارة الوقت والبشر

محمد ثروت

بقلم: محمد ثروت

الأربعاء، 15 يوليو 2020 10:26 ص

في أثناء زيارتي لرئيس إندونيسيا الأسبق البروفيسور بحر الدين يوسف حبيبي في بيته شارع باترا كونينجان13 بالعاصمة جاكرتا لاحظت لوحة صغيرة معلقة خلف جدران مكتبه الضخمة بخط كوفي جميل تعبر عن آيات قرآنية "وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ" (العصر1:٢) فلم أفوت الفرصة لتكون مدخلا لحوارات ممتدة.

عن الشاب بحر الدين يوسف حبيبي الذي تحول من مجرد مهندس وباحث في مدينة آخن الألمانية يتقاضى 680 يورو شهريا ويقيم مع أسرته في غرفة بالإيجار إلى رئيس إندونيسيا الثالث؟

قال لي حبيبي هذه اللوحة أعتز بها لأنها تعني قيمة الوقت في الإسلام، بينما نحن أمة لا تعرف كيف تدير أوقاتها. وتعرف مص الأصابع فقط وهي عادة آسيوية معروفة. أن إدارة الوقت شىء مهم جدا في حياتي منذ ذهبت لدراسة الهندسة على نفقتي الخاصة بألمانيا في مطلع الستينات من القرن الماضي. وكانت والدتي تتأخر في إرسال النقود شهريا بسبب العملة الصعبة، وهذا جعلني أدرب نفسي على حياة التقشف. كيف أعيش بمبلغ زهيد لمدة 30 يوم؟

ينظر حبيبي إلى كل شىء نظرة هندسية فبعد ساعة ونصف من حوارنا قال لنتوقف لصلاة العصر واستراحة الغداء.

بعد انتهاء الاستراحة بدأ حبيبي يشرح وجهة نظره عن العالم ومكانة الإنسان فيه. لم تفارق الرجل السبعيني الذي خاض كل المناصب من مهندس طائرات إلى وزير بحث علمي وتكنولوجيا وناءب الرئيس سوهارتو ورئيس جمهورية، فلسفة وعقلية المهندس.. العالم ستة أبعاد (طول، عرض، ارتفاع، وقت، سرعة، طاقة).

إذا الإنسان في وجهة نظره يشبه الكمبيوتر فالجسد هارد وير بالروح والنفس والباطن والوجدان أما قوة الذكاء الخارقة أي السوفت وير فهي السرعة وبعد الطاقة.

قال أنه تعلم الكثير من أستاذه الألماني في آخن البروفيسور هانس إيبنر، الذي دعاه إلى إدراك قيمة الوقت وأن من لايدرك تلك القيمة لا يدرك قيمة الحياة.

كان حبيبي يستغل فترة العطلة ومدتها ثلاثة أشهر لتعلم اللغات فأتقن الهولندية إلى جانب الألمانية والإنجليزية والعربية.

حكى لى حبيبي كيف كان يعمل 18 ساعة في شبابه بألمانيا بشركة تالبوت ليفهم فقط أن المسافة بين عجلات القطار والسرعة يجب ألا تزيد عن مسافة معينة عند الانحناء.

كان يكرر لي عبارة "تعلمت كيف أستفيد من الوقت بشكل جيد. العمل لأطول وقت. الطعام الصحي الرخيص. الاهتمام بأسرتي الصغيرة".

وعندما دعاه الرئيس سوهارتو للعودة إلى بلاده وتكليفه بوزارة البحث العلمي والتكنولوجيا عام 1978. وقف حبيبي فجأة أثناء حديثه معي. وأشار إلى هياكل طائرات صغيرة تملأ البيت حولنا. حتى على المسبح الزجاجي. قاءلا: كان كل تفكيري كيف نستطيع دخول القرن ال21 بصناعة طائرات جارودا الوطنية ونصدرها للعالم.

لم يعجب الكثيرون بتجربة حبيبي السياسية في الحكم التي استمرت عاما واحدا (1998-1999) كفترة انتقالية عقب الإطاحة بالجنرال سوهارتو. بسبب تأييد حبيبي لاستقلال تيمور الشرقية. وعندما سألته عن تلك النقطة أمر السكرتيرة بإحضار كتابه بعنوان"اللحظات الفاصلة: الطريق إلى الديمقراطية" وقال لي: "أردت منح الشعب حرية الاختيار ٠ فلماذا يغضب القوميون من الديمقراطية. وما الحكمة أن نظل في نزاع مع أشقاء لا يقبلون طريقتنا في إدارة شؤونهم؟

الوقت يا بني.. كلمة كررها حبيبي كثيرا وهو يتحدث عن جزيرة سنغافورة التي لم يكن بها موارد طبيعية وتحولت إلى حديث العالم، بسبب إدارة الوقت والموارد البشرية.

بقدر ما خسر حبيبي السياسي بفضل نزعات راديكالية قومية وظروف اقتصادية صعبة. بقدر ما كسبنا البروفيسور حبيبي المفكر.. مؤسس جمعية المثقفين المسلمين الذي كان يرى أن المثقف ليس خريج الجامعة بل الذي يهتم بالحياة والبيئة المحيطة به أما أصحاب البرج العاجي بعيدا عن مجتمعاتهم فهم مجرد أكاديميين أو عقول محشوة بالكتب فقط والنظريات والفلسفات دون تطبيق على أرض الواقع. كما أسس حبيبي سنتر للدراسات الديمقراطية على طريقة جيمي كارتر.

لكن الأهم نظرته للحب في الإسلام من خلال كتابه (قصة حب واقعية حبيبي وعين) عن زوجته حسري عين حبيبي، وهي وصفة روحانية لكفاح مهندس شاب وطبيبة من بلاد جنوب شرق آسيا، بدءا حياتهما من الصفر حتى القمة عن طريق إدارة الوقت.

فكم ضيعنا ونضيع من أوقات في أعمار قصيرة، بينما نجحت نماذج في بناء ذاتها وتطوير مجتمعاتها بفضل إدارة الوقت.

.........