على أرضها اتمختر يا اسطى

ناهد صلاح
ناهد صلاح
بقلم: نـاهـد صـلاح

المدينة كانت تتوق إلى هذا الحدث، ليس إلى شكله المبهر فقط، وإنما لما يتبعه من بشارات، الأقصر التي خلت سنوات عدة من خطوات السائحين، وتراص فيها البشر وعربات الحنطور كقطع الموزاييك وسط هوس التأويلات ورصد الاحتمالات الكثيرة، وهم يحاولون اقتناص فرصة عمل أو زبون:"مركب يا بيه" أو "كاريتة يا هانم"، تُبعث من جديد، فإعادة إحياء طريق الكباش، طريق الكواكب الفرعونية بين معبدي الأقصر والكرنك، والاحتفال الكبير لم يكن مجرد تكوين شكلي مبهر، بل اللحظة التي تعيد تشكيل المشهد، بداية نسق كبير لتفعيل الأقصر كمدينة سياحية ومنطقة تكون هي مصدر أساسي لصناعات تلائم طبيعتها الخاصة وتخرج الشباب الأقصري من دائرة الإحباط وخيبة الأمل والوقوف على الكورنيش.

 إنها اللحظة التي تنقذ الأقصر وناسها من متاهة ضاعوا فيها السنوات الماضية، حيث كان الارتجال هو مفتاح الحياة ونسقها؛ فلا خطط ولا مسار يتلمس وضوحه من خيوط الشمس أو يبحث عن مصادر أخرى للحماس، المدينة الجميلة حاصرها الارتجال، لولا أملًا تعوا خلفه لكسر ظلال الخوف في المسافة بين انحسار السياحة والأزمة الاقتصادية، الأمل في منطقة صناعية تعتمد على مصادر البيئة وتراثها وتهزم غول البطالة، ومرسم دولي يعيد ترتيب التفاصيل في مدينة الجمال والرسم والنقوش، وربما دار للأوبرا  ترد روح الفن وتستفيد من المكان.

 الأعين التي تطلعت إلى الاحتفال الكبير بالأمس، كانت تفتش عن الروح خلف الحجر، تغوص في أغوار الثقافة المصرية الأصلية وكنوزها، وفي ذات الوقت تتشبث بأبناء وأحفاد قادرين على مد الخط مع الأجداد، مثل هؤلاء الصغار الذين صادفتهم في البر الغربي، يفترش الأرض وينحتون الحجر، تنطلق أيديهم في حفر هامش أبيض أو أسود، حسب نوع الحجر؛ ليصبح فيما بعد كتلة، وجه أو جسد أو رمز فرعوني مُستلهم من روح المكان ويحملت حكاياته. حالة تستدعي فكرة إحياء مرسم الأقصر الذي أنشيء في الاربعينيات من القرن الماضي، حيث كانت الأقصر قبلة للرسامين ورواد الفن التشكيلي وفيها يعيدون تشكيل الطبيعة في لحظات من التوحد تصنع أبجدية فارقة.

 الأحفاد يعيشون في كنف الأجداد، يتمرغون في تراب التاريخ ولا يتعاملون مع المكان على أنه أطلال، يأتي الغرباء ليرموا عليها السلام ثم يرحلون، لعل هذا ما أدركه الفنان محمد ناجي منذ الوهلة الأولى، حين أقام في قرية القرنة التي منحته الهدى، ليبصر تاريخه وحاضره من زاوية مكان هو في حد ذاته عابر للحكمة والمنطق، ويفهم أن من يمر هناك ويكتفي بإلقاء السلام على الحجر دون البشر، فإنه يحرم نفسه من الجمال، على هذا الأساس خرجت لوحاته، "مشهد من جبل طيبة" و"البركة المقدسة" و"معبد الكرنك" و"طريق الكباش"، وخرجت أيضًا فكرة المرسم، تخرجت أول دفعة من مراسم الأقصر في منتصف الاربعينيات، إلى مرسم الأقصر كان يتوجه الفنانون من كل صوب عبر منح دراسية أو من خلال المجهود الفردي يحملون شغفهم المسبق بسحر المكان وغموضه، حامد ندا، سيد عبد الرسول، صلاح طاهر، غالب خاطر، كامل جاويش، كمال النحاس، حسن عثمان، محيى الدين طاهر، ممدوح عمار، يوسف فرنسيس، ناجى كامل و.. غيرهم، 

 المدينة هي متحف مشرع الأبواب، والحياة في الأقصر حقيقية، كل شيء يكمل مهمته، الشروق والغروب، النيل والجبل، البر الشرقي والبر الغربي، التاريخ والحاضر، التماثيل والبشر في الشوارع والبيوت، كل التفاصيل ربما تثير الهيبة في البداية، لكنها الدليل والإشارة التي تمنح الخيال وفك الألغاز والاستلهام من المكان الفريد، أثر المكان لا ينفصل عن بشر عابرون في الحضور والغياب، فالهوس بالتاريخ الراسخ في كل جهة والذي يصادفك أينما وليت وجهك في الشارع والمعابد والبيوت على الجبل، الحياة في حضن الموت، أطوار غرائبية تخص الأقصر وحدها، بالضبط كما ترى المثلث العجيب لمسجد وكنيسة ومسلة فرعونية في معبد الأقصر، صورة مذهلة تخرج عن إطار التأويلات التقليدية وتبرز سطوة طيبة وسحرها، إنه الوضوح الذي يفيض عن الحد كما في النيل شديد الزرقة.

الأمر أعمق من المشاعر السطحية لنزهة عابرة بين الآثار.. الآثار ليست أطلال محنطة، فهنا بلد التاريخ والفن، وهو أمر يثير الهيبة والرهبة ويحتاج إلى نقلة تعيد إلى الفن بهائه وتعبر عن امتدادنا وتواصلنا الحقيقي مع عظمة الأجداد، نقلة لا تتناقض مع جوهر الإنسانية وتكتفي بالشكل واللون وتهجر الموضوع.

على أية حال، فإنه بنظرية بسيطة جدًا نجد أنه لا مفر من تكريس الفن ليكون جسر العبور إلى مشهدية ثقافية جديدة، إلى مجتمع يطور روحه كما شكله، ويهتم بناسه وحجره، وما يحدث في الأقصر الآن هو البداية في مدينة واجهت تحديات كبيرة سابقًا، وتتنافس حاليًا مع البذخ الحضاري لماضيها، ما يجعل جديدها قطبًا لمعادلة الإبهار والريادة، ويستطيع المغني أن يغني مبتهجًا: على أرضها اتمختر يا اسطى.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

تفاصيل مقتل عامل على يد سمكري بسبب 600 جنيه فى أوسيم

باق 12 يوما على بدء العام الدراسي الجديد.. تعرف على التفاصيل

ريبيرو يطلب تقريراً عن حالة المصابين فى الأهلي قبل مواجهة بيراميدز

كل ما تريد معرفته عن مباريات اليوم الأخير بالجولة الرابعة للدوري

موعد مباراة الزمالك وفاركو فى الجولة الرابعة بالدوري


وزارة الصحة: لقاح الأنفلونزا لا يتعارض مع التطعيمات الأخرى

العالم يحبس الأنفاس.. رعب فى فيتنام بسبب إعصار كاجيكي.. الدول العربية تواجه خطر التغيرات المناخية.. اتساع رقعة حرائق الغابات فى تونس.. تحذيرات من موجة حر قياسية" بالجزائر.. وأمطار رعدية وسيول بمناطق فى السعودية

تنسيق المرحلة الثالثة.. إتاحة تسجيل الرغبات بحد أدنى 50% لجميع الشعب

ليفربول يقتنص فوزًا من نيوكاسل يونايتد 3-2 بمشاركة صلاح فى الدوري الإنجليزى

التضخم في سنغافورة يتراجع إلى 0.6% في يوليو


نيوكاسل يونايتد × ليفربول.. الريدز يتلقى هدفا ثانيا ويتعادل 2-2 بالدقيقة 87

الإنتر يقسو على تورينو بخماسية نظيفة في الدوري الإيطالي

وزارة الصحة توصح معلومات مهمة عن تطعيمات الروتا للأطفال.. تفاصيل

صراصير وفئران وطعام فاسد داخل معسكرات جيش الاحتلال.. صور

محافظة الإسكندرية تعلن إغلاق جميع الشواطئ غدا بسبب ارتفاع الأمواج

رئيس شركة المحلة للغزل لـ"اليوم السابع": المصانع الجديدة تعيد نهضة شركات الغزل والنسيج المصرية.. أحمد بدر: 1.6مليار جنيه إيرادات في عام واحد وصادرات بـ20 مليون دولار لـ12دولة.. واهتمام حكومي على أعلى مستوى

علاء عبد العال: ماقدرش أواجه الأهلي غير بطريقة دفاعية.. والتعادل بمثابة مكسب

التوصل لحبيبات نباتية دقيقة تشبه الخرز توضع على الحلويات والشاى لخفض الوزن

الأهلي يواصل نزيف النقاط ويتعادل مع المحلة سلبيًا.. صور

الأهلي 0-0 غزل المحلة بعد 75 دقيقة.. ومهرجان فرص ضائعة من الأحمر

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى