محمد بدوى يكتب: فى محبة إبراهيم داود

الدكتور محمد بدوى
الدكتور محمد بدوى
ذات مساء فى صيف 1986، وكنت عائدا من الخارج إلى القاهرة فى أجازة، رأيت إبراهيم داود أول، وكان يجلس مع الصديق الراحل وليد منير، فجلست معهما وصخبنا واحتد النقاش بيننا عن الغناء الشرقى لا أتذكر نقطة الخلاف حينذاك، لكنى شعرت أننا سنصبح صديقين بمعنى ما فى يوم من الأيام. وكنت قد رأت له بعض القصائد فى مجلة إبداع قبل أن يضمنها كتابه الشعرى الأول (تفاصيل).
بعد ذلك صرنا صديقين، لكن هذا حديث آخر.
كانت القاهرة فى التسعينات تضج بالنقاش حول الشعر والشعرية، وتحديدا حول شعرية قصيدة النثر، بعد خفوت الصخب الذى أحدثته تنظيرات الشاعر الكبير أدونيس، والتى تبناها بعض شعراء السبعنيات، وروج لها بعض دعاة البنيوية فى النقد. وكان داود ينفر من هذه التنظيرات وإن كان يرقبها فى صمت ويخضعها لمزاجه فى الشعر والفن، ويستصفى منها نفسه ما يراه ملائما، لا سيما بعد تحوله من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر.
الولع بالتفاصيل الصغيرة ورفعها إلى مستوى الشعر كان همه الأول مع سماحة وسعة صدر فى التلقي، حتى لو كان الشاعر الذى يقرأه يرفع شعارات مناوئة. هكذا كان يحب عفيفى مطر شاعرا وإنسانا رغم أنه لم يكن من متبنى أرائه فى الشعر واللغة الكثيفة والوعى المعقد الملتبس. هذا ملمح من شخصية داود الخوف من تحويل الشعر إلى سجين لأيدولوجيا شعرية مغلقة.
sami-wahib-(39)
 
فى ذاكرتى "وفى قصائده أيضًا" يبدو داود ريفيا جوالا مفتونا بالشوارع والأزقة والمقاهى وحركة البشر. لا ينظر شذرا للمدينة، ولا يحلم باغتصابها أو حتى تعكير المياة معها. سقطت الفوارق بين الفضائين الريف والمدينة، ذلك ان الفضاء تخلقه الذات أو الأحرى يخلقه وضع الذات كعنصر ضمن عناصر عدة متداخلة وغير متعادية. الفضاء ليس واقعا محضا منعزلا عن الذات بل هو نتاج فعل الذات الداخلية وهى تتحرك بين عزلتها وصخب الخارج. هذا الخارج ليس فى تناقض مع الذات، حتى لو رفضت ما فيه من قبح وعنف وإملاق مادى وروحي، الأحرى أن عليها أن تتلمس الأسباب ليصبح قابلا للحياة فيه. تلمس الأسباب، ومحاولة الفهم والتفهم شيء قديم راسخ لدى داود، شأن مزارع من دلتا مصر يبحث عن البهجة. هذا ما يفسر الغنائية الماثلة فى شعره ونثره على السواء. الغنائية فى الشعر الموزون الموقع يسهل خلقها من خلال الإيقاع العروضي، لا سيما فى البحور الصافية، لكنها تتحقق فى قصيدة النثر لديه وسردياته القصيرة من خلال إيقاع داخلى ناتج عن صلابة الجملة وتقطيع السطور وتوزيعها على الصفحة ووضوح النمط النحوى المبتعد عن التباس الضمائر. تلقى داود الشعر فى مرحلة تدريبه تحت سطوة الإيقاع الجزئى المهيمن فى قصيدة التفعيلة لا سيما فى غنائية أحمد عبد المعطى حجازى الواضحة أو غنائية سعدى يوسف المكبوحة أو فى عنائية محمد الماغوط النثرية فضلا عن شعر العامية المصرى الذى تهيمن فيه قيم الإنشاد والغناء. دعنك إرث المدرسة المصرية فى تجويد القرآن والإنشاد الصوفي. ذهب من هذا الإرث ما فيه من سمات خارجية نغمية، وبقيت روحه الداخلية التى أصبحت "طبعا لا تطبيعا" فى كتابة إبراهيم داود.
محمد بدوى
 
ليس مهما جدا أن تتصبح مصادر تطبيع الشاعر الفنان إلا ذا تلمسنا ما فعلته الذات بهذه المصادر، التى لا تكون عادة صافية أو من منبع واحد بل قد تتشابك خيوطها وعناصرها وتتداخل فتتبدى فى الكتابة نسيجا يصعب فكه وعزل خيوطه.
أرى فى شعر داود ونثره شعرية تبحث عن التماس الأسباب للعالم والبحث عن غفران لما فيه من مظالم وقبح، بحثا عن البهجة، بهجة الجسد وبهجة القصيدة، وبهجة الحكاية، بهجة هى شكل مراوغ ماكر لمقاومة ما ينطوى عليه الوجود من هشاشه وما يحتويه الواقع من مظالم. فى هذا يمكننا أن نفهم إيثاره لقصر النصر وتركيز دلالاته من خلال كلمات تشير غالبا إلى ما هو مادى أو نفيه للالتباس الذى يشوش على الذات فى علاقتها بالعالم وتفاصيله. غنها شعرية تبحث عن ما يجعل الشعر سببا للإفلات من شراك وجود غامض معقد لكن يجب عيشه والابتهاج به. وفى هذا ملمح صوفى بالمعنى العميق، يبحث عما فى الآخر، من صفات تجعله صديقا محتملا.
 
Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

الأكثر قراءة

تامر حسني نجم حفلات مهرجان العلمين الجديدة فى 3 دورات متتالية

جنازة جوتا.. أرنى سلوت وفان دايك و"الريدز" فى مقدمة الحضور.. صور

بعد 43 عاما من اختفائهم.. إيران تحمل إسرائيل مسئولية اختطاف دبلوماسييها الأربعة

الأخبار العربية والعالمية حتى الظهيرة.. استشهاد 19 فلسطينيا في قصف إسرائيلي على مناطق متفرقة من غزة.. مصرع وفقدان 47 شخصا في فيضانات تكساس الأمريكية.. البرتغال تودع جوتا وليفربول يخصص رحلة جوية لحضور الجنازة

ليفربول يواصل صرف رواتب جوتا حتى 2027 ويؤسس صندوقًا لدعم وتعليم أطفاله


العدوان يدمر الاقتصاد والفقر يصل لحد المجاعة.. البطالة فى غزة تتجاوز 80%.. 600 ألف متعطل بفلسطين.. 178 ألف عامل فقدوا وظائفهم داخل الخط الأخضر.. وإسرائيل ترفض تحويل أموال التقاعد للعمال الفلسطينيين منذ 54 عاما

هل يكون وسام أبو علي اللاعب رقم 8 فى قائمة الراحلين عن الأهلى؟

العظمى على القاهرة فى الظل 36 درجة.. تفاصيل حالة الطقس والظواهر الجوية المتوقعة

أول قرار من يانيك فيريرا مع الزمالك.. تأجيل انطلاق فترة الإعداد 24 ساعة

تنسيق الجامعات 2025.. 800 جنيه رسوم التقدم لحجز اختبارات القدرات


حادثة تهز تونس.. زوج يقتلع عينى زوجته للحصول على كنز.. اعرف التفاصيل

الأهلى يتمسك باستمرار إمام عاشور ويرفض عرض الأخدود السعودى

ملخص وأهداف مباراة بالميراس ضد تشيلسي فى كأس العالم للأندية 2025

موعد مباراة فلومينينسي ضد تشيلسى فى نصف نهائى كأس العالم للأندية 2025

بالميراس ضد تشيلسي.. إستيفاو يحرز هدف التعادل ضد فريقه المستقبلى "فيديو"

تشيلسى يتفوق على بالميراس بهدف فى الشوط الأول بمونديال الأندية.. فيديو

المحكمة الدستورية تفصل بعد قليل فى دعوى عدم دستورية قانون الإيجار القديم

اليوم عاشوراء.. صيامه سنة نبوية تكفّر ذنوب عام مضى

فيضانات تكساس.. 6 قتلى و20 فتاة مفقودة وسط استمرار جهود الإنقاذ

مواعيد مباريات اليوم السبت 5 - 7 - 2025 والقنوات الناقلة

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى