الريف المصري من "المش" و"البتاو" إلى البانيه والفراخ النصف مقلية

محمد أحمد طنطاوى
محمد أحمد طنطاوى
بقلم محمد أحمد طنطاوى

لا أعرف كيف سقطت كل الكلاسيكيات المعروفة عن الريف المصري خلال الـ 25 عاماً الماضية، مذ دخلت المدنية الزائفة إلى المنازل، وتحول الفرد من منتج إلى مستهلك، وتغيرت المنظومة بالكامل من الكد والاجتهاد والعمل، إلى الاستكانة والتحول إلى منطق "يوم بيوم"، دون أن تكون هناك أفكار للتدبير والتحوط، كما كانت صورة الريف شاهدة على ذلك قبل نحو ثلاثة عقود.

لا أعرف كيف انصرف سكان الريف عن تربية الطيور المنزلية، ووصل بهم الأمر إلى البانيه والفراخ النصف مقلية، وكيف تركوا تخزين الجبن والسمن واحتياجاتهم من الطعام، وصاروا  كما تفعل طبقة الموظفين، يستهلكون كل شيء!

لا أجد إجابات كاملة تخبرني أين ذهب البط والرومي والحمام والأرانب التي كانت تربيها الفلاحة المصرية؟ وأين ذهب الأوز المصري، الذي لم أعد أراه وكأنه في طريقه للانقراض؟، أين ذهب الكشك والبتاو "عيش مصنوع من الذرة الشامية والحلبة"، والمش الصعيدي، الذي كان ماركة مسجلة؟، أين ذهب الفرن الفلاحي والوقود الخشبي والحطب والقوالح وأقراص "الجلة"، التي كانت بمثابة وقود عالي الجودة يوفر آلاف الأطنان من البوتاجاز والغاز الطبيعي، ويوفر  مليارات الدولارات والعملات الصعبة، بعدما حلت الأفران الصاج وصار البوتاجاز في كل منزل، وصار النمط الاستهلاكي هو الغالب، في حين تم إهدار الوسائل التقليدية ولم نعد نستفد منها بأي صورة، وخسرناها كما خسرنا عشرات المزايا التي كان يقدمها الريف المصري.

وفق آخر تقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن عدد سكان الريف في مصر بلغ 54.4 مليون نسمة، بنسبة 57.8 % من إجمالي عدد السكان، بما يؤكد أن الريف يعيش فيه النسبة الأكبر من السكان، وبصورة أوضح فإن الوقوف على مشكلاته وأبعادها جزء هام جداً من التخطيط الاستراتيجي لهذا البلد خلال الفترة المقبلة، فمازال الريف يتحكم في الزراعة بصورة مباشرة، التي تعتبر المصدر الأساسي لغذاء المصريين، لذلك يجب دراسة ما حدث على مدار نحو ربع قرن في الريف المصري لنصل من خلالها إلى نتائج وأرقام وإحصائيات قد يتم البناء عليها لاستعادة مجد هذا القطاع الواسع من الشعب المصري وتحفيزه من جديد على السعي والإنتاج بالصورة التي نتمناها.

التوسع العقاري في الريف على مدار العقود الماضية أضر بالجغرافيا الطبيعية والخريطة السكانية، وتغيرت معه فلسفة الحياة في الريف، وظهرت طبقة جديدة من أصحاب "أراضي المباني"، التي كانت في الأساس مساحات زراعية متميزة على أطراف القرى والنجوع والكفور، ولك أن تتصور أن في العقد الأخير وحده فقدت مصر 90 ألف فدان من أجود أراضيها الخصبة، نتيجة الزحف العشوائي والتعديات على الأراضي الزراعية، وفق تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فلو أن الفدان الواحد كان ينتج 30 ألف جنيه فقط سنوياً، فإن الناتج الإجمالي 2.7 مليار جنيه، يتم تحويلها الآن بالعملة الصعبة لتغطية عمليات الاستيراد للغذاء من حبوب وسلع استراتيجية.

مساحات التعدي على الأراضي الزراعية الضخمة في المناطق الريفية جاءت نتيجة ثقافة التوسع الأفقي والمنازل التقليدية، التي تتكون في الغالب من طابق واحد أو طابقين على الأكثر، وهنا يجب معرفة أن هناك 5.8 مليون مبنى في مصر يتكون من طابق واحد فقط، 4.7 مليون منهم في الريف، بما يؤكد أن أغلب مباني الريف على هذا الشكل، وهذا وفق تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وفق آخر بيانات الإسكان عام 2017، بل إن من أعجب النسب التي قد تصادفها حول الإسكان في الريف ستجد أن عدد المباني المكونة من 6 أدوار 32 ألف مبنى فقط، وعدد المباني المكونة من 10 أدوار 769 مبنى فقط، بما يؤكد أن فلسفة التوسع الرأسي والبناء الصحيح لاستيعاب الزيادات السكانية من خلال منازل مبنية على أعمدة خرسانية أربعة أو خمسة أدوار غير موجودة تقريباً، وبسببها فقدنا عشرات الآلاف من أجود الأفدنة الصالحة للزراعة.

التغيرات التي جرت على الريف المصري في العقود الثلاثة الأخيرة شكلت عبئاً على المرافق والخدمات، والبنية التحتية والأساسية، بالإضافة إلى الزيادة السكانية التي يعتبر الريف مصدر أساسي ورئيسي فيها نتيجة ثقافة الزواج المبكر، وغياب التخطيط المتعلق بتنظيم الأسرة، لذلك تحول الريف من منتج أساسي وداعم قوي للاقتصاد، وأداة قوية في مواجهة الأزمات والمحن، إلى مستهلك بامتياز خسر كل الوسائل والبدائل التقليدية، التي كانت تجعله في اكتفاء دائم ويؤمن احتياجات سكانه دون الاعتماد على الدعم الحكومي.

الريف المصري لن يتطور ويتغير ويعود إلى ما كان عليه سابقاً إلا من خلال الإنتاج والعمل واستعادة روح السعي، والعودة إلى الزراعة والأنشطة المرتبطة بها، وأتصور أن التحول الخطير الذي شهده الريف في السنوات الماضية، أثر بصورة مباشرة على مؤشرات الاقتصاد الكلي في مصر، ورفع معدلات الاستهلاك إلى مستويات غير مسبوقة، وزاد من حجم السلع غير الضرورية، لذلك أتصور أن الأزمة الاقتصادية الراهنة يجب أن تكون لها انعكاسات مباشرة على ترتيب أولويات واحتياجات الريف في الفترة المقبلة، ونستعيد دوره مرة أخرى، وتعود إسهاماته بقوة في العمل والإنتاج.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

موضوعات متعلقة

مطلوب استعادة حالة التفاؤل

مطلوب استعادة حالة التفاؤل الإثنين، 09 يناير 2023 09:58 ص

مطلوب تقليل مستوى الضجيج

مطلوب تقليل مستوى الضجيج الإثنين، 02 يناير 2023 10:04 ص

لا تسرقوا سعادتنا..

لا تسرقوا سعادتنا.. الإثنين، 19 ديسمبر 2022 10:40 ص

أزمة عناوين..

أزمة عناوين.. الإثنين، 12 ديسمبر 2022 10:16 ص

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

التأمينات الاجتماعية تحدد موعد صرف معاشات يناير 2026.. اعرف اقرب منفذ ليك

قرار جديد من النيابة فى واقعة تعرض 12 طفلا للاعتداء داخل مدرسة بالتجمع

غيابات الزمالك أمام حرس الحدود بكأس عاصمة مصر

برشلونة يشيد بموهبة حمزة عبد الكريم: نجم واعد للمستقبل

مفاجأة فى مستقبل محمد صلاح مع ليفربول قبل أمم أفريقيا 2025


بلاغ ضد نادية الجندى بتهمة القذف والتشهير بفريال يوسف

ناصر منسى يفاضل بين المحلة والبنك الأهلى للرحيل عن الزمالك

مقتل عنصر شديد الخطورة وضبط مخدرات بـ100 مليون جنيه

أحمد عبد القادر نجم الأهلى يحتفل اليوم بزفافه فى حفل كبير

شوبير: 500 ألف دولار والشرط الجزائى ينهيان أزمة فيتوريا مع اتحاد الكرة


محمد صلاح على مقاعد البدلاء.. التشكيل المتوقع لمصر في ودية نيجيريا

أوروبا بلا أطفال.. مليارات الحوافز تفشل فى وقف تدهور الخصوبة

أحمد السقا: أصحابى دعمونى أمس والنهاردة قالوا عليا عندى إيجو

مواعيد مباريات اليوم.. جوادالاخارا مع برشلونة ومصر أمام نيجيريا

التضامن تفتح باب التقديم لإشراف حج الجمعيات الأهلية موسم 1447هـ - 2026م

توروب يجري تعديلات على تشكيل الأهلي أمام سيراميكا بكأس عاصمة مصر

اعرف حقوقك.. لا يجوز تشغيل العامل أكثر من 8 ساعات في اليوم

الفوز الأول.. كأس عاصمة مصر تفتح باب الحلم لسيراميكا أمام الأهلي

محافظ القليوبية: المنازل المجاورة للسكة الحديد لم تتأثر بسقوط الحاويات

مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء 16 - 12- 2025 والقنوات الناقلة

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى