دار الإفتاء توضح حكم تبادل الهدايا مع غير المسلمين

دار الافتاء المصرية - أرشيفية
دار الافتاء المصرية - أرشيفية
كتب لؤى على
الإسلام دينٌ كلُّه سلامٌ ورحمةٌ وبرٌّ وصلة؛ ولذلك أمر الله تعالى بالعدل والإحسان على الإطلاق، وجعل ذلك قيمة عُليا من قيم الإسلام؛ فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: 90]، وأمرنا أن نقول القول الحسن للناس كلهم؛ فقال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]، ولم ينهَنا عن بر غير المسلمين، ووصلهم، وإهدائهم، وقبول الهدية منهم، وغير ذلك من أشكال البر بهم؛ فقال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، فالوصل، والإهداء، والعيادة، والتهنئة لغير المسلم، كلُّ ذلك يدخل في باب الإحسان.
 
ولمّا كان الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو التعايش، كان هذا شاملًا لكافة مظاهر الأخلاق الحسنة، ومختلف أنواع العلاقات الإنسانية؛ من التكافل والتعاون، والبر والتراحم، والتهادي والمجاملة؛ أخذًا وإعطاءً، على مستوى الفرد والجماعة.
 
والتهادي والمُهاداة: تبادل الهدايا، والهدية في ذاتها من أعظم مظاهر البر؛ فإنها من أكثر ما يورث التآلف والصفاء، ويقطع العداوة والبغضاء، ويقع الموقع الحسن في نفوس الناس؛ حتى ذُكِر في اشتقاق لفظ "الهدية" أنها إنما سُمِّيَت بذلك لما تورثه من الهداية إلى الخير والتآلف بين الناس.
 
وقد حكى الله تعالى عن ملكة سبأ أنها أرسلت هدية إلى سيدنا سليمان عليه السلام؛ لعلمها بحسن موقعها، فقال تعالى: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ [النمل: 35].
 
وإذا كان هذا شأنَ الهدية في نفسها، فإن تبادلها بين الناس أبلغ في إظهار البر، وأدوم لأسباب الصلة، وأوثق لعرى التآلف، فإذا كان التهادي بين المسلمين أنفسِهم مستحبًّا مع اتفاق الدين واجتماع الكلمة، فإنه بينهم وبين غيرهم أشدُّ استحبابًا وآكد مشروعية؛ لِمَا فيه من إظهار سماحة الإسلام، وعظمة تعاليمه، ورقي أخلاقه ومبادئه، وحرصه على تأليف القلوب.
 
وقد حث النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم على التهادي بين جميع الناس، من غير تفرقة بين المسلم وغيره:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تَهَادَوْا؛ فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَغَرَ الصَّدْرِ» أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسي في "المسند"، والترمذي في "السنن".
 
وعنه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تَهادَوْا تَحابُّوا» أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو يعلى في "المسند"، والطبراني في "الأوسط" والبيهقي في "السنن".
 
وأما من السنة النبوية الشريفة:
فقد تواردت النصوص على قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهدايا من غير المسلمين، وأمره بقبولها، ومجازاتهم عليها، وعلى إهدائه لهم صلى الله عليه وآله وسلم.
 
فأما قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهديةَ من غير المسلمين:
 
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أَنَّ أُكَيْدِرَ دُومَةَ -من نصارى العرب- أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم جُبَّةَ سُنْدُسٍ" متفق عليه.
 
وعنه أيضًا رضي الله عنه: "أَنَّ مَلِكَ ذِي يَزَنَ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم حُلَّةً أَخَذَهَا بِثَلاثَةٍ وَثَلاثِينَ بَعِيرًا أَوْ ثَلاثٍ وَثَلاثِينَ نَاقَةً فَقَبِلَه" رواه أبو داود في "السنن".
 
وعن علي رضي الله عنه قال: "أَهْدَى كِسْرَى لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم فَقَبِلَ مِنْهُ، وَأَهْدَى لَهُ قَيْصَرُ فَقَبِلَ مِنْهُ، وَأَهْدَتْ لَهُ الْمُلُوكُ فَقَبِلَ مِنْهُمْ" رواه أحمد والترمذي وحسَّنه.
 
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: «أهدى صاحب الإسكندرية المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُكْحُلةَ عيدان شامية، ومرآة، ومشطًا» أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط".
 
وعن حنظلة بن الربيع الكاتب، قال: "أهدى المقوقس ملك القبط إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هدية، وَبَغْلَةً شَهْبَاءَ، فقبلها صلى الله عليه وآله وسلم" أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وابن زنجويه في "الأموال"، والطبراني في "المعجم الكبير".
 
وأما أمْرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقبول الهدية من غير المسلمين:
 
فعن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: "قَدِمَتْ قُتَيْلَةُ ابْنَةُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ أَسْعَدَ مِنْ بَنِى مَالِكِ بْنِ حَسَلٍ عَلَى ابْنَتِهَا أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ بِهَدَايَا؛ ضِبَابٍ وأَقِطٍ وَسَمْنٍ وهي مُشْرِكَةٌ فَأَبَتْ أَسْمَاءُ أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَتُدْخِلَهَا بَيْتَهَا، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَأَنْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا" رواه الإمام أحمد في "مسنده".
 
وأما تهادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع غير المسلمين:
 
فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الهدية، ويثيب عليها" أخرجه البخاري في "الصحيح".
 
وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، قال: "جاء رسولُ ابنِ العَلْمَاءِ، صاحبِ أَيْلَةَ، إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكتابٍ، وأهدى له بغلة بيضاء، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأهدى له بُردًا" رواه البخاري ومسلم واللفظ له في "الصحيح".
 
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: مرَّ عمر بن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على يهودي، وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قميصان، فقال اليهودي: يا أبا القاسم اكسُني، فخلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضلَ القميصين فكساه، فقلت: يا رسول الله، لو كسوته الذي هو دون!، فقال: «لَيْسَ تَدْرِي يَا عُمَرُ أَنَّ دِينَنَا الْحَنَفِيَّةُ السَّمْحَةُ لَا شُحَّ فِيهَا! وَكَسَوْتُهُ أَفْضَلَ الْقَمِيصَيْنِ لِيَكُونَ أَرْغَبَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ» أخرجه الحافظ أبو نعيم في "حلية الأولياء".
 
كما تواترت النصوص في إهداء الصحابة رضي الله عنهم الهدايا لغير المسلمين:
 
فروى الإمام البخاري في "صحيحه"، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أهدى حُلَّةً لأخٍ له مشركٍ، كان قد أهداها له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
 
 
وقد فهم علماء الإسلام من هذه الأحاديث والآثار وغيرها أن التهادي بين المسلمين وغير المسلمين مستحبٌّ من جهتين: فهي من باب الإحسان، وهي من سُنَّةُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
 
ومن أوضح الأدلة وآكدها على مشروعية التهادي واستحباب تبادل الهدايا: أن الشرع الشريف قد أمر برد التحية بأحسن منها إن لم يكن بمثلها، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ [النساء: 86]، فلما أجاز الشرع للمسلم قَبولَ هدية غير المسلم، كان ذلك مستلزمًا في المقابل مشروعيةَ رد المسلم له ما يكافئ هديتَه؛ على سبيل المجازاة والعدل، أو استحباب إهدائه هديةً أحسن من هديته؛ على سبيل الإحسان والفضل.
 
 
وإذا كان غير المسلم متدينًا بدين يأمره برد الإحسان بالإحسان، ومقابلة البر بالبر، وتلقي العطاء بالعطاء، فإن الإسلام لا يزيد ذلك إلا خلقًا وسماحةً وكرمًا؛ فإذا كان للمسلم حقٌّ في أن تُردَّ تحيتُه، وتُجازَى هديتُه، فإن حقَّ غير المسلم أوجب، ومقابلة إحسانه آكد، ورد هديته أدعى. كما سبق عن ابن عمر رضي الله عنهما في تقديم حق جواره على غيره، والبدء به قبل الجار المسلم، وكما ذكره الفقهاء في مشروعية رد السلام عليه إذا سَلَّم على المسلم، وفي زيادة إثم من ظلمه على إثم من ظلم مسلمًا؛ لمكان ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وذمة دين الإسلام.
 
وبناءً على ذلك: فالأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو التعايش والتكامل والتعارف والتعاون، والإسلام هو دين السلام والرحمة والبر والصلة، وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى الخلق كافة، والتهادي بين الناس هو من أعظم مظاهر الإحسان والبر، ومن أكثر ما يورث التآلف والصفاء، فهو مستحب على وجه العموم؛ لا فرق في ذلك بين مسلم وغير مسلم، بل هو في حق غير المسلم آكد استحبابًا وأشد مشروعية؛ من جهة أنه إحسان للإنسان، وأنه من السنة، وقد ثبت ذلك بالنصوص الشرعية من القرآن الكريم في التعامل بالبر والصلة، ورد التحية بالتحية، ومقابلة الهدية بالهدية، ومجازاة الإحسان بالإحسان، وفي السنة النبوية الشريفة من الأمر بمكافأة صاحب الهدية، وقبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهدايا من غير المسلمين، وأمره بذلك، وإثابتهم عليها، واشتهر ذلك من فعل الصحابة رضي الله عنهم؛ حتى كانوا يقدمون حق غير المسلم في الجوار ويبدأون به، ونص الفقهاء على عظم حق غير المسلم، وأنه ظلمه أشد جرمًا، ونص جماعة منهم على مشروعية رد السلام عليهم، فيُستَحبُّ التهادي وتُشرَع المجاملات الحسنة في الأعياد والأفراح والمناسبات بين المسلمين وغيرهم؛ لما في ذلك من إرساء روابط التَّآخي والتَّآلف، وبث روح الوطنية والتَّكاتف.
 
 
 
Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

منتخب الشباب يلاقي المغرب في الودية الثانية اليوم استعدادا للمونديال

تعرف على قائمة أغنيات فيلم الرومانسية Materialists

ترتيب الكرة الذهبية بعد السوبر الأوروبي.. محمد صلاح يطارد ثنائي باريس

البنك الأهلى يخشى اليوم مفاجآت الظهور الأول لحرس الحدود بالدورى

تعرف على الفرق بين اختصاصات مجلسى النواب والشيوخ وفقا للقانون


هداف الدوري الإنجليزي التاريخي.. محمد صلاح خامس العظماء

تعرف على نصائح للمترجلين لمنع تكرار حوادث الطرق ونزيف الدماء

آخر فرصة.. محافظة القاهرة تغلق باب التحويلات المدرسية اليوم

مطالب بتحقيق فى مجلس الشيوخ حول محادثات "ميتا" مع أطفال

أسرع قطارات السكة الحديد.. اعرف مواعيد قطار تالجو اليوم الجمعة 15-8-2025


مواعيد قطارات خط القاهرة أسوان والإسكندرية والعكس اليوم الجمعة 15-8-2025

100 عام على ميلاد هدى سلطان.. باقية بمسيرتها الفنية وأعمالها الخالدة

أشرف زكى يصدر قرارا بمنع الفنانين الحديث عن أزمة بدرية طلبة بأى وسيلة إعلامية

مواعيد قطارات خط القاهرة الإسكندرية والعكس اليوم الجمعة 15- 8 - 2025

غدا.. انطلاق امتحانات الثانوية العامة للدور الثانى 2025

الاتحاد يغادر إلى هونج كونج استعدادا لمواجهة النصر فى كأس السوبر السعودي

الاحتلال الإسرائيلى يشن غارتين على منطقة جزين جنوب لبنان

رقم قياسي لـ مصر في حضور الجماهير بمونديال ناشئي اليد رغم وداع البطولة.. صور

الأمم المتحدة: الجوع فى غزة يبلغ أعلى مستوياته منذ بدء النزاع

خسارة ناشئى اليد أمام إسبانيا 31-29 فى ربع نهائى بطولة العالم.. صور

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى