قصة "سره الباتع" لـ يوسف إدريس.. الجزء الرابع

مسلسل سره الباتع
مسلسل سره الباتع
كتب بلال رمضان

سره الباتع .. قصة للكاتب الكبير يوسف إدريس، تحولت إلى مسلسل للمخرج خالد يوسف بعد مرور 65 عامًا على صدورها ضمن مسلسلات رمضان 2023، وتزامنًا مع عرض مسلسل سره الباتع، ينشر "اليوم السابع" قصة "سره الباتع" التي نشرت لأول مرة عام 1958 ضمن مجموعة قصصية بعنوان "حادثة شرف".

قصة سره الباتع.. الجزء الرابع
 

واعتقدتُ أنَّه لن يدلَّني على حلِّ هذا اللُّغْز إلَّا الأحمدي أفندي، فهو يعرف كل شيء عن كل شيء، ولا بد أن يكون لديه تفسير لحكاية السلطان الذي له مقام، مع أنَّه ليس من أولياء الله، كان الأحمدي أفندي أول مَن لبس البدلة والطربوش في بلدنا، وأول مَن ركب القطار وسافَر إلى القاهرة، وأول أفندي لم يعمل في الحكومة وأشتغل رأسًا في البنوك والشركات، وكان قد تعدَّى الثمانين وترك العمل نهائيًّا، وأقام في البلد على حسِّ أفدنته القليلة، وكنَّا كثيرًا ما نُصادِفه سائرًا في البلدة بقامة معتدلة لا اعوجاج فيها ولا انحناء وقد استبدل بالبدلة جلبابًا أبيض نظيفًا له جيب على الصدر، ولكنه لم يتنازل عن الطربوش ولا عن ساعته ذات الكتينة التي تمتدُّ من عروة الجلباب وتنتهي في جيب الصدر.

وكنَّا نحن الصبية والأولاد إذا ما صادَفْناه مارًّا ننتحي جانِبًا تأدُّبًا ولا نجرؤ على النظر في وجهه إلَّا مِن بعيد، وجه قد اكتسى من طول ارتداء البدلة والطربوش ملامح جادة متَّزِنة، وشارب دقيق معتنًى بكل شعرة فيه، وفم مطبق لا ينفك، وأصداغ غائرة لا تسندها أسنان، وكل شيء فيه جادٌّ، كلامُه جدٌّ، وزعيقه جدٌّ، وهزله جدٌّ أيضًا، ولم يكن يضحك إلَّا إذا تحدَّث مع العمدة.

وكانتْ جرأةً كبيرةً منِّي أن أذهَبَ وأسأَلَه، فلا يَلِيق بمثلي أن يُخاطِب الأفندية كبار السن من أمثاله، تلك قضية أخرى مسلَّم بها في بلدنا.

وانحنى الأحمدي أفندي ليضَعَ أذنَه ذات السمع الذي بدأ يثقل بجوار فمي الذي كان يتكلَّم في تردُّد ولعثمة وخفوت.

وكلَّما ألقيتُ عليه السؤال قال: «إيه؟ بتقول إيه؟»

فأُعِيد السؤال.

وأخيرًا أدركتُ أنَّه سمِعَني، فقد اعتدَلَ في وقفته، وأمسك بعصاه ذات العقفة بعناية، وحدَّق فيَّ بعينَيْه الضيقتين الغامقتين اللتين لو كانتا عينيَّ لَمَا استطعتُ أن أرى بهما أبدًا، واشتدَّ ارتباكي.

ولم أنظر إلى غير كتينة ساعته التي أدركتُ أنها بفرعين وأنَّ بينهما حلية ذات بلورة خضراء.

حدَّق فيَّ طويلًا حتى فكرتُ أن أتركه واقفًا في مكانه وأجري، ولكنه قال: «براوة عليك يا ولد! جدع اللي فكرت في دي! أنت ابن مين يا شاطر؟»

وازداد ارتباكي واضطرابي، وأنا أشرح له ابن مَن أنا، ومِن أين جئتُ، وحينئذٍ قال: «بتسأل السؤال ده ليه؟»

قلتُ في تردُّد، وهو يستعيد كلماتي كلمة، كلمة: «علشان أعرف، هو سلطان والَّا ولي.»

قلب عصاه فوضع العقفة على الأرض وأمْسَكَها مِن أسفلها وهو يقول: «لا ولي ولا سلطان ولا دياولو! أوعَ تصدَّق الكلام الفارغ ده! سلطان حامد إيه؟! أنا أعرف السلطان حسين سلطان مصر، الله يرحمه ويحسن إليه، أعرف السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين، أعرف السلطان الغوري أعظم سلطان في زمانه، إنَّما سلطان حامد دا إيه؟! دا حتى اسمه ما ينفعش لواحد سلطان! ده تلقاه صعلوك، ولا كان ولي ولا خلافه، دا أنا أسمع أنه كان بيدِّي عهود للنسوان في أوضة ضلمة، وكان مايدِّيش العهد إلَّا وهو شارب قزازة كان بيملا نصها سبرتو ونصها خل علشان يبقى طينة مطينة! إنَّما أنا مبسوط منك، أنت في الابتدائية؟ أخدتم إنجليزي لغاية فين؟ وبتاخدوا أجرومية والا لأ؟ أنا مبسوط منك، أنت باين عليك ولد نَبِيه، سلِّم لي على أبوك، قول له: جدِّي الأحمدي أفندي بيسلِّم عليك، ح تقول له: جدِّي مين؟»

ولم يتركني الأحمدي أفندي يومها إلَّا بعد أن سألَنِي في العربي والإنجليزي والأحياء والصحة وأثبت لي أنَّ عِلْمَنا لا يُساوي قُلامَةَ ظفرٍ بالقياس إلى العلوم أيام زمان، وفي النهاية أوصاني أن أطْرُدَ من عقلي حكاية السلطان، وإلَّا فإنه سوف يشكوني إلى أبي حين يقابله.

ولم أطرُدْها من عقلي، بل كبرت وأصبحتْ مشكلة عويصة.

هذا الإنسان الغريب، الذي ليس وليًّا من أولياء الله، لماذا خصَّه أهل بلدنا بهذا التكريم؟! ولماذا بُنِي له مقام؟! وكيف احتلَّ تلك المكانة الهائلة في صدور الناس دون أن يعرفوه؟!

هل هو سلطان؟

وإذا كان سلطانًا، فعلى أي شيء كان سلطانًا، ثم إنَّ كلمة سلطان كلمة كبيرة تكاد تساوي كلمة الملك، فكيف يُدفَن سلطان كهذا في بلدنا، بلدنا الصغيرة التي لا يعرفها أحد؟! لماذا بلدنا بالذات؟! وكيف يكون مدفن السلطان متواضِعًا إلى هذا الحد؟!

 

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

محمود سعد: أرقام تحاليل أنغام تتحسن لكن موصلتش لمرحلة الخروج من المستشفى

رادار المرور يلتقط 1131 سيارة تسير بسرعات جنونية خلال 24 ساعة

مواعيد قطارات خط القاهرة الإسكندرية والعكس اليوم الجمعة 15- 8 - 2025

بايرن يوافق.. كومان يوقّع للنصر فى هونج كونج استعدادا للسوبر السعودي

موعد مباريات اليوم الجمعة 15 -8 -2025 في الدورى المصرى


غدا.. انطلاق امتحانات الثانوية العامة للدور الثانى 2025

محمد الشناوي مرشح لحراسة عرين الأهلي أمام فاركو غداً في الدوري

مواعيد عرض "بتوقيت 2028" ثانى حكايات مسلسل ما تراه ليس كما يبدو

رقم قياسي لـ مصر في حضور الجماهير بمونديال ناشئي اليد رغم وداع البطولة.. صور

إعفاء طلاب الثالث الإعدادى بالعامين الدراسيين 2026 و2027 من أعمال السنة


الهلال يتجاوز فالدهوف مانهايم 3 - 2 في ختام معسكره بألمانيا

خسارة ناشئى اليد أمام إسبانيا 31-29 فى ربع نهائى بطولة العالم.. صور

حرس الحدود كامل العدد أمام البنك الأهلى في المواجهة الأولى له بالدورى

5 معلومات عن مباراة الأهلى وفاركو غدا الجمعة فى الدوري المصري

بيكهام يعوض غياب ياسر إبراهيم في تشكيل الأهلي أمام فاركو

النيابة تنتقل لفحص كاميرات موقع حادث مطاردة سيارة لفتيات على طريق الواحات

ليلى علوى تطمئن الجمهور على حالتها بعد الحادث: أنا بخير وقدر ولطف

الداخلية: ضبط طالب "يشتم" المواطنين فى تعليقات فيس بوك

"حادث نووى" جديد بقاعدة بريطانية يتسبب فى أزمة لداونينج ستريت.. تفاصيل

ليوناردو دى كابريو يكشف عن الفيلم الأقرب إلى قلبه

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى