سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 30 أبريل 1943.. وفاة شاعر البؤس عبدالحميد الديب.. الموهوب الذى لعن الناس جميعا لأنه لم يجد الأمان والكرامة

عبدالحميد الديب
عبدالحميد الديب
سعيد الشحات
كان الشاعر عبدالحميد الديب، فى الخامسة من عمره، حين مات جاره الأعرابى «سالم»، وكان فتى غض الشباب يملأ العين جمالًا والقلب جلالًا، وتتعلق به الأنظار فى القرية، وكان الديب يرى فيه وهو فى سنه بطله، وبموته أصيب بأول كارثة فى حياته»،حسبما يذكر صديقه وكاتب سيرته الدكتور عبدالرحمن عثمان، فى كتابه «الشاعر البائس عبدالحميد الديب».
 
يذكر «عثمان» أن الديب روى له أنه وقف على الباب يرقب بمقلتين زائغتين الأعرابيات، وهن يفدن من القرى المجاورة ليشاركن «أم سالم» حزنها، وماهى إلا دقائق حتى شاهد لطم الخدود وشق الجيوب، واستمع رثاء النائحة، وطبع منها فى ذاكرته طوال حياته مقطعًا واحدًا كانت تختتم به المقاطع المختلفة، وهو «يا قعود مولد يا بنى يا سالم»، وانصب هذا اللحن اللعين فى تجاويف روحه، ثم تفتحت عيناه فى قريته على بؤس أسرته ليلتصق به طوال حياته التى بدأت بمولده فى يوليو 1898 بقرية كمشيش، محافظة المنوفية، وتنتهى بالقاهرة فى 30 إبريل، مثل هذا اليوم، 1943، ويصبح فى تاريخ الإبداع صاحب لقب «شاعر البؤس».
 
عاش «الديب» 45 عاما عرفه فيها الكاتب والسياسى فتحى رضوان عن قرب ويصفه فى كتابه «عصر ورجال»: «شاعر موهوب، كان جديرًا بأن يثرى ديوان الشعر العربى فوق ما أثراه بألوان غير مسبوقة، وبمعان جديدة غير مطروقة، لو أن الوسط الأدبى كان أكثر جدًا، ولكن الواقع أن الحياة الأدبية كانت يشوبها لون من الهزل يمارس على قوارع الطرق والمقاهى، وحجرات رؤساء تحرير الصحف، وسقط الديب فى أيديهم، فتلهوا به طويلًا، وأكدوا عنده الميل إلى الكسل، وأفقدوه احترامه لنفسه، ولم تمتد منهم يد جاد إلى تقويمه، والارتفاع بموهبته فى حدود خصائصه النفسية».
 
وبتقدير الكاتب الصحفى يوسف الشريف، فى كتابه «صعاليك الزمن الجميل»: «كانت حياة عبدالحميد الديب قصة مأساوية وعنوانا لشاعر عظيم..عاش حياة شديدة الاضطراب والتذبذب، وهو الذى كان مؤهلا بفطرة الشاعر الأصيل للتربع على القمة السامقة التى وصل إليها أقرانه من فطاحل شعراء ذلك الزمان، وربما كانت لشخصيته البوهيمية وظروف حياته المتقلبة وبحثه المحموم عن الراحة والأمان والكرامة بلا جدوى، مدعاة لإثراء شعره وتميزه عن غيره من الشعراء التقليديين».
 
كان الشاعر كامل الشناوى أكثر ممن احتضنوه، ويذكر الدكتور عبدالرحمن عثمان: «كان الديب يحمل للأستاذ كامل الشناوى الحب والخشية معًا، وما كنت أسمعه إلا شاكرا عطفه عليه إبان محنته لأنه أطعمه وأسكنه، أو ساخطا عليه حين يتذكر مقالبه»، أما الشناوى فيراه فى كتابه «زعماء وفنانون وأدباء: «عاش بلا مأوى، بلا أهل، بلا عمل، كان، كما قلت يوم وفاته، يعيش فى الزمان لا فى المكان، ينام فى الليل لا فى فندق ولا فى بيت، يعمل فى النهار لا فى مكتب أو مصنع، وكان يحز فى نفسه أن الناس لا يعطفون عليه لأنه شاعر، وإنما لأنه بائس، فقير مريض، ومن هنا كان يشعر بالمرارة إزاء الناس جميعًا».
 
يستشهد الشناوى بالعديد من قصائد «الديب»، التى تصور حاله، فعن دخوله المسجد لينام لا ليصلى، ثم مغادرته بعد صلاة الفجر، فيرمقه الجالسون على المقهى بنظراتهم، فيكتب: «إذا أذَّنوا بالفجر طرتُ مسرةً/ إلى مسجدٍ فيه أصلِّى وأضجع/ أصلى بأذكار المُرائى وقلبه/ وبئست صلاة يحتويها تصنُّع/ أمُرُّ على المقهى فأسمع شامتًا/ يمزِّق فى عِرضى وآخَر يشفع/ وقد ساء ظنى بالعباد جميعهم/ فأجمعتُ رأيى فى العداء وأجمعوا».
 
وينطلق ليلًا ونهارًا يسعى إلى تحقيق أمله ورجائه، فيجد فى كل طريق مصرعًا لآماله وخيبة لرجائه فيصرخ: «أذله الدهر لا مال ولا سكن/ فتى تزيد على أنفاسه المِحَن/ إذا سعى فجميعُ الأرض قبلتُه/ وإنْ أقام فلا أهل ولاوطن/ ثيابه - كأمانيه - ممزَّقة/ كأنها وهى حىٌّ فوقه كفن».
 
وينتهى به سعيه إلى غرفةٍ يسكنها، وإذا هو وحده كل ما فيها من أثاث، ويناجى ربه بأبياتٍ تنبض مرارةً وثورةً: «أفى غرفتى يا رب أم أنا فى لحد/ ألَا شدَّ ما ألقى من الزمن الوغد/ لقد كنتُ أرجو غرفةً فوجدتُها/ بناءً قديم العهد أضيق من جدى/ فأهدأُ أنفاسى يكاد يهدُّها/ وأيسر لمسٍ فى بنايتها يردى/ أرى النمل يخشى الناس إلا بأرضها/ فأرجله أمضى من الصارم الهندى/ تُساكننى فيها الأفاعى جريئة/ وفى جوها الأمراض تفتك أو تعدى/ ترانى بها كل الأثاث فمعطفى/ فراش لنومى أووقاء من البرد/ جوارك يا ربى لمثلى رحمة/ فخذنى إلى النيران لا جنة الخلد».
 
وينظر إلى أمته فيراها احتضنت الجاهل والدعى والمغرور، وتركته كمًّا مهملًا، فيثور قائلًا: «يا أمة جهلتنى وهى عالمة/ إن الكواكب من نورى وإشراقى/ أعيش فيكم بلا أهل ولا سكن/ كعيش مُنتجِع المعروف أفاق/ وليس لى من حبيبٍ فى دياركُمُ/ إلا الحبيبين أقلامى وأوراقى/ لم أدرِ ماذا طعمتم فى موائدكم/ لحم الذبيحة أم لحمى وأخلاقى/ بين النجوم رجال قد رفعتهُمُ/ إلى السماء فسدُّوا بابَ أرزاقى».
Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

وزارة العمل تنذر 7 منشآت بالقاهرة غير ملتزمة بتطبيق الحد الأدنى للأجور

سيد رجب ورانيا يوسف يناقشان سلبيات السوشيال ميديا فى مسلسل لينك

وزير التعليم: نظام البكالوريا المصرية خطوة فارقة في تاريخ التعليم المصرى

تفاصيل علاقة العندليب والمجوهرات بمعسكر الأهلي فى طبرقة التونسية..صور

ملخص مباراة الولايات المتحدة ضد المكسيك فى نهائي كأس الكونكاكاف الذهبية


نزوح عشرات الآلاف من السودانيين نحو مدينة الأبيض هربا من "الدعم السريع"

نيابة سوهاج تقرر إجراء تحليل المخدرات لقائدى سيارتين فى حادث تصادم جهينة

مش كلها بتزود وزنك.. 7 أنواع من الجبن صحية وتساعد على فقدان دهون البطن

الأهلى يبدأ إجراءات سفر ياسين مرعى لمعسكر تونس بعد حسم الصفقة

غادة عادل بعد خضوعها لعملية شد وجه.. ماذا تغير فى شكلها قبل وبعد؟


تعطل حركة القطارات على خط القاهرة ـ الإسكندرية لخروج عربات عن مسارها

الأهلي يرهن إعلان صفقة أسد الحملاوي برحيل وسام أبو علي

مركز حراسة المرمى.. أول الملفات الشائكة على طاولة يانيك فيريرا فى الزمالك

ناشئات الطائرة أمام المكسيك فى بطولة العالم

العالم هذا الصباح.. ترامب: تأسيس إيلون ماسك لحزب سياسى جديد أمر سخيف.. جيش الاحتلال يشن عملية "الراية السوداء" على اليمن بـ20 غارة جوية.. وسيدة لبنان الأولى تكشف عن إجراء لأول مرة بالقصر الجمهورى

ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات العارمة فى ولاية تكساس الأمريكية لـ80 قتيلا

تعرف على أغلى أندية نصف نهائى كأس العالم للأندية 2025

تطورات جديدة فى موقف لويس دياز من الانتقال إلى برشلونة

محمد صلاح يتصدر توقعات "فانتازي الدوري الإنجليزي" في الموسم الجديد

هيثم شعبان يحدد موعد نهاية معسكر الطلائع فى الإسماعيلية

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى