العامية المصرية وسيط بين ثقافتين

أحمد طنطاوى
أحمد طنطاوى
أحمد طنطاوى

"العامية المصرية" لهجة غير رسمية غنية بالمفردات، تقتصر على لغة الكلام دون الكتابة، ومن ثمّ فهى بعيدة عن تسجيل الآثار العلمية والفنية، رغم وجودها القوى داخل الهيئات الأكاديمية كلغة تدريس، وهى ـ من حيث نشأتها ـ لا تختلف عن نشأة العاميات الأخرى فى اعتمادها على تأثير اللغات الأقدم، واختلاطها بالأجانب، وتأثير الهجرات من وإلى المجتمع، والتخصص المهنى، وفقدان مجازية عدد من الاستعارات وبالتالى الحاجة إلى التجديد، فضلا عن الحاجات الشعورية والعرضية وغيرها من الأسباب التى توافرت بقوة للمجتمع المصرى بالشكل الذى كان من المفترض أن ينتح عامية بعيدة تماما عن الفصحى، لكن وجود القرآن الكريم وخطب الجمع ودروس المساجد وشيوع المدارس مثّل محطات حية لتأثير الأخيرة بالشكل الذى مكنها تمكينا ساعد عليه أيضا تدين المصريين وتمسكهم بالتقاليد والثوابت القيمية والفكرية، مع الأخذ فى الاعتبار أن هذه الممانعة الدينية والفكرية والثقافية باتت تتهاوى الآن بسبب التطور التقنى الذى ربط الناس بلغته، فعمت الألفاظ الأعجمية، وعادت الهوة بين العربية والعامية تتسع بشكل متسارع يمثل خطرا حقيقيا على هوية المجتمع المصرى.

هذا الخطر لا يراه البعض ممن يحلو لهم تسمية هذه العامية بـ"اللغة المصرية الحديثة"، رافعين لواء الدعوة لاعتمادها لغة رسمية للكتابة والكلام، على اعتبار أنها تملك قواعدها المستقلة، وتتوافر فيها مقومات التعبيرين: المجازى والحقيقى، ومن ثمّ القدرة على الاستقلال بالأمة المصرية عن اللغة الأم (الفصحى).

ومن نافلة القول أن هذه الدعوة كانت وستظل "محل استهجان عام"، ومطلقوها يحيطون أنفسهم بالشك والريبة، خاصة وأن التأسيس الأول لها كان عبر الإدارة الاستعمارية لمصر عام 1888م، على يد فيلهلم سبيتا ويليام ويلكوكس، حتى ادعى الأخير أن فشل العقل المصرى فى الابتكار سببه قواعد اللغة الفصحى، وصحيح أن مهمة هؤلاء صعبة لكنهم لا ييأسون، هم فقط انتقلوا ـ مرحليا ـ من العمل على تصعيد العامية، إلى العمل على إضعاف الفصحى فأطلقوا على أنفسهم مسمى "المدارس الحديثة" ووصفوا العربية بأنها "نخبوية، وغير الصالحة للحداثة، وأنها السبب في تردى التعليم"، ونشروا "المدارس الأجنبية" التى تخلق جيلا "ممسوخ الهوية" إن لم يكتب العامية فلن يكتب الفصحى. في واحدة من أخطر مظاهر اختراق "الأمن القومى المصرى".

وبالعودة إلى العامية المصرية نجد أنه بالرغم من كونها لغة ذكية وقادرة على الإبانة والتعبير، وتحتوى الفن والثقافة المحلية، وتخلوا من القواعد "الرياضية الدقيقة" التى تحتويها لغة الكتابة مثل المثنى والإعراب وغيرهما، إلا أنها غير قادرة على اكتساب الاحترام كلغة كتابة، لافتقارها إلى المظهر الرسمى الذى يحتاج ـ فضلا عن الفخامة والرصانة في التعبير ـ "الدقة" المعتمدة على التنوع المعجمى والأسلوبى، كما أن المكان المسيطر للغة الفصحى من الصعب زحزحته، فالآثار العلمية والتراث الفكرى للشعب المصرى محفوظ بهذه اللغة، واستبعادها أو إضعافها يقطع الصلة بين الحداثة والتراث ويجعل الأصالة والمعاصرة ضدان، كل هذا في كفة وكون هذه اللغة "دينية" في كفة أخرى، ما يعطيها "قدسية خاصة" فالقرآن الكريم منزل بها والصلاة لا تصح دونها، ومن ثمّ فحضورها دائم بهما وبالمحاضرات الدينية والخطب الأسبوعية.

وعلى الجانب المقابل يدرك أنصار الفصحى خبث الهدف المرصود من مهاجمتها، فيحاولون إشاعتها فى المجتمع كرد فعل مضاد، فلا ينوبهم إلا السخرية، ذلك أن هذه اللغة ـ الرسمية ـ بقواعدها "الرياضية الدقيقة" لن تكون متاحة لبائع الخضار ومشتريه، ومن ثمّ فلا يمكن استخدامها على هذا النطاق، والحل يتمثل فى وجود اللغتين إلى جوار بعضمها، فالازدواجية اللغوية لا تنافر فيها، وهى موجودة في أغلب لغات العالم، لغة للحياة اليومية بتعاملاتها القصيرة، وأخرى للمكاتبات الرسمية والمعاملات الممتدة.

هنا تلعب العامية المصرية الحديثة دورا مهما كونها وسيط بين ثقافتين (الثقافة المحلية والثقافة العربية) لتتبلور ثقافة "هجين"، "عربية متمصرة" و"مصرية مستعربة"، قُدر لها ـ بما تملكه من رصيد حضارى ـ أن تكون عاملا مشتركا تقبل جميع الثقافات المحلية في العالم العربى القسمة عليه، فحققت سيطرة إقليمية من خلال الأعمال الفنية والثقافية والتموضع المركزى: الجغرافى والفكرى، فوجدنا بعض كلماتها وقواعدها وحتى أمثالها (وكثير منها يرتد إلى المصرية القديمة)، في لهجات إقليمية كلفظ "كدة" الذى شاع في الخليج، وكمثل هذا المثل المصرى المهندس ببعض التعديلات الصوتية والبنيوية الإماراتية: "الباب اللى أييك منه ريح سده واستريح"، وشيوع زمن المضارع المستمر بدخول حرف الجر عليه: بياكل، بيتكلم، وهذه القاعدة الأخيرة ترتد للمصرية القديمة، المسماة - على الشيوع - الهيروغليفية.

ومن هنا فإن العامية المصرية لعبت دورا في التقريب الوجدانى والفكرى بين العرب وبعضهم  من جهة وبينهم وبين المصريين من جهة أخرى، فهم (العرب) كما يملكون لغة رسمية مشتركة يملكون أيضا لهجة عامية مشتركة، حيث يضطر الخليجى الذى يسافر إلى المغرب لاستخدام العامية المصرية ـ كلغة وسيطة ـ للتفاهم مع سائق التاكسى.

وبلغ من شعبية العامية المصرية أن قامت حملة من رموز عربية "غير مصرية" للاعتراض على قرار دبلجة أفلام "والت ديزنى" إلى العربية الفصحى عام 2016، بعنوان: "ديزنى لازم ترجع مصرى"، سرعان ما أصبحت هاشتاجا ثم "ترند" متصدرا قائمة أعلى الهاشتاجات استخداماً في تغريدات تويتر في العديد من الدول، كما أصبح الهاشتاج ترند عالمياً فى تويتر رقم ٧ في الترتيب. وكان حديث جميع منصات النشر لعدة شهور، حتى اضطرت ديزنى فى عام ٢٠٢٢، إلى تلبية الطلب، وأعادت دبلجة الأعمال المدبلجة بالفصحى إلى اللهجة المصرية مرة أخرى.

وهنا قد يثور السؤال: هل العامية المصرية هى أقرب اللهجات للفصحى؟.. هذا السؤال عليه خلاف كبير بين العرب، فكل قطر يزعم أن لهجته هى الأقرب، وقد يكون صحيحا أن هناك بلدانا أقرب للفصحى من مصر، لكن هذا القرب يعاود الابتعاد بـ"لكنة" صعبة تعيد هندسة المفردات العربية الفصيحة فتبتعد بها صرفيا وصوتيا عن وضعها الأساسى، أما فى العامية المصرية فالكلمات العربية فيها ـ على كثرتها أو قلتها ـ تنطق كما هى صوتيا وصرفيا، ما يجعلها أوثق اتصالا بالفصحى حتى وإن لم تكن أكثر استعارة منها.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

اختبارات القدرات 2025 تبدأ السبت.. هل يمكن استرداد الرسوم حالة الرسوب؟

مواعيد مباريات اليوم الأربعاء 9-7-2025 والقنوات الناقلة

آمنة تحدت الظلام والأمية.. سيدة كفيفة عمرها 55 سنة من سوهاج تحفظ كتاب الله وترتله بأحكامه فى 8 سنوات.. كانت تسير مسافة بعيدة 3 مرات أسبوعيًا لأجل القرآن الكريم.. وتصبح محفظة وتحلم بالعمرة.. صور

المسارات البديلة بعد غلق الطريق الإقليمى لتنفيذ أعمال إصلاحات لمدة 7 أيام

رجلان غيرا نظرة توم هانكس للحياة.. اعرف القصة بمناسبة عيد ميلاده


تعرف على موعد انطلاق استعدادات الأهلي للموسم الجديد ومعسكر تونس

هدوء ما قبل الإعلان.. آخر تطورات نتيجة الدبلومات الفنية 2025

الحرارة تصل 42 درجة.. حالة الطقس المتوقعة اليوم الأربعاء 9 يوليو 2025

كيف أنقذت مصر نفسها من كارثة بيولوجية بعد إحباط تهريب 300 كائن حى نادر فى مطار القاهرة؟.. الأنواع المضبوطة شديدة الخطورة وتنشر أمراض وفيروسات وبكتيريا غريبة لا نملك أمصال لها.. وتسبب خسائر فى الثروة الحيوانية

أحمد نادر جلال: السقا أبهرنى فى الكوميدى فى "أحمد وأحمد"


الإنتاج يتعاقد مع ثنائى الترسانة لتدعيم صفوفه فى الميركاتو الصيفى

نتنياهو: سنهزم حماس ونقضي على قدراتها

غزل المحلة يوافق على بيع "بن حمودة" خلال فترة الانتقالات الصيفية

البنك الأهلي يغلق ملف رحيل أسامة فيصل بعد توقف مفاوضات الأهلي

ليبيا تطرد وزراء داخلية إيطاليا واليونان ومالطا ومسؤولا أوروبيا

مجهول انتحل شخصية وزير خارجية أمريكا وتواصل مع مسئولين برسائل نصية وصوتية

سجل بياناتك لتصلك نتيجة الثانوية العامة 2025

إحالة أوراق المتهم بقتل والدته حرقا بسبب تعاطى المخدرات فى الشرقية للمفتى

مبابي يسحب شكواه بالإبتزاز وسوء المعاملة ضد باريس سان جيرمان

خطوات اختيار الرموز الانتخابية للمرشحين فى انتخابات مجلس الشيوخ .. صور

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى