مقدمات الكتب.. ريتشارد إي نيسبت في كتاب جغرافية الفكر

جغرافية الفكر
جغرافية الفكر
أحمد إبراهيم الشريف

نواصل سلسلة مقدمات الكتب ونتوقف اليوم مع كتاب "جغرافية الفكر: كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف … ولماذا؟" تأليف ريتشارد إي نيسبت، ترجمة شوقي جلال، فما الذي جاء في مقدمته؟


مقدمة المؤلف


منذ بضع سنوات مضت، بدأ طالب صينى نابهٌ يعمل معى فى بحث قضايا عن علم النفس الاجتماعى والاستدلال العقلي. وذات يوم، ونحن لا نزال فى بداية تعارفنا، قال لي: "هل تعرف أن الفارق بينى وبينك أننى أرى العالم دائرة، وأنت تراه خطًّا مستقيمًا؟" ومن دون أن يقلقه ما ارتسم على وجهى بالضرورة من تعبير يفيض روعًا، استطرد موضحًا الفكرة: "يؤمن الصينيون بالتغير المطرد أبدًا، لكن مع إيمان بأن الأشياء دائمًا وأبدًا تتحرك مرتدة إلى حالة ما كانت فى البدء. إنهم يولون اهتمامهم لنطاق واسع من الأحداث، يبحثون عن العلاقات بين الأشياء، ويظنون أن لا سبيل أمامهم إلى فهم الجزء من دون فهم الكل. هذا بينما يعيش الغربيون فى عالم أبسط حالًا وأقل خضوعًا للحتمية، إنهم يركزون انتباههم على موضوعات أو أناس لهم وجودهم الفردى البارز دون الصورة الكبرى، ويظنون أن فى وسعهم التحكم فى الأحداث؛ لأنهم يعرفون القواعد والقوانين الحاكمة لسلوك الأشياء".

جغرافية الفكر
جغرافية الفكر

 

بدوت شاكًّا، لكن فضولى شغوف للمزيد، عشت طوال حياتى مؤمنًا بنظرة كلية شمولية إلى الطبيعة والفكر البشري، التزمتُ المسار الغربى الطويل خطوة خطوة، ابتداء من الفلاسفة التجريبيين، من أمثال هيوم ولوك وميل، وحتى علماء المعرفة من معاصرينا اليوم، مؤمنًا بأن جميع البشر يدركون بحواسهم، ويستدلون بعقولهم بطريقة واحدة. ويسعنى أن أوجز الافتراضات المشتركة التى يقوم عليها هذا التراث فى المبادئ القليلة التالية:

كل امرئ لديه، ويجري، العمليات المعرفية نفسها، إن رعاة القطعان فى ماووري، ومن يعيشون على قطف الثمار والقنص فى كونج، ومن يتعاملون مع الشبكة الدولية (الإنترنت)؛ جميعهم يعتمدون على الأدوات نفسها من حيث الإدراك والذاكرة، والتحليل السببي، والتصنيف الفئوى والاستدلال.

عندما يختلف شعب فى ثقافة ما عن غيره من الشعوب، من حيث المعتقدات، ليس لنا أن نرد هذا الاختلاف إلى اختلاف العمليات المعرفية، بل بسبب أنهم واجهوا جوانب مختلفة للعالم، أو لأنهم تعلموا معارف أخرى.

عمليات التفكير العقلى من "المرتبة الأعلى" تنبنى على أساس القواعد الصورية للمنطق، مثال ذلك: رفض الجمع بين النقيضين؛ القضية لا تكون صادقة وزائفة فى وقت واحد.

التفكير العقلى منفصل عن موضوع التفكير؛ إذ يمكن استخدام العملية نفسها للتفكير فى أمور مغايرة تمامًا، وإن شيئًا محددًا يمكن التفكير بشأنه مستخدمين أى عدد من الإجراءات المختلفة.

وأذكر أننى قبل أن ألتقى تلميذى هذا بأكثر من عشر سنوات شاركت لى روس فى تأليف كتاب يحمل عنوانًا يكشف بوضوح عن مظان تعاطفي؛ الاستدلال البشري، لم نقل الاستدلال فى الفكر الغربى (ويقينًا ليس الاستدلال العقلى فى جامعة أمريكية)، بل قلنا «الاستدلال البشري». وشخص الكتاب ما اعتقدت أنه قواعد الاستدلال العقلى التى يستخدمها الناس فى كل مكان لكى يفهموا العالم، بما فى ذلك بعض القواعد التى أعتقد أنها معيبة أو قاصرة، وتؤدى إلى أحكام خاطئة.

وأذكر من ناحية أخرى أننى — قبل أن ألتقى تلميذى الصينى بفترة قصيرة — كنت قد فرغت لتوِّى من سلسلة من الدراسات أبحث فيها عما إذا كان بالإمكان تحسين عمليات التفكير العقلى عند الناس عن طريق تعليمهم قواعد جديدة للتفكير. وتأسيسًا على افتراضاتى بشأن الكلية وشمولية التفكير وعتاد البشر فى التفكير، ذهبت فى المبتدأ إلى الظن بأن هذا العمل سوف يكشف عن صعوبة، إن لم أقل استحالة، تغيير أنماط التفكير العقلى التى كنت أدرسها، حتى وإن استغرقتنا دراسات تفصيلية وممتدة فى مجالات أخرى، من مثل الإحصاء والاقتصاد. ولكن كم كانت دهشتى كبيرة إذ اكتشفت نتائج جوهرية للتدريب، مثال ذلك أن من تلقَّوا برامج محدودة عن الإحصاء تجنبوا الوقوع فى كم هائل من الأخطاء فى الحياة اليومية؛ إذ أصبح من المرجَّح لهم أن يردُّوا «إخفاق طالب الثانوي» فى لعبة البيسبول إلى نكوصه وتراجعه عن المستوى المتوسط، وليس بسبب سوء حظ أو لعنة غيبية، وأصبح الأرجح لهم أن يعتبروا الاختبار الشخصى بمنزلة مثال بسيط دالٍّ على سلوك المرء، ومن ثم فإن أى قرار حكيم بإلحاق الشخص بالعمل ينبغى أن نبنيه على أساس عينة من المعلومات أوسع نطاقًا يتضمنها ملف طلب العمل. وتبيَّن أن الاقتصاديين يفكرون بشأن جميع ما يَعرِض لهم من أمور على نحو مختلف عن بقية الناس — ابتداء من اتخاذ قرار بالاستمرار فى مشاهدة فيلم ممل، وحتى التفكير فى السياسة الخارجية — واكتشفت، علاوة على هذا، أن بالإمكان تدريب الناس فى دورات تدريبية قصيرة لتغيير عاداتهم فى التفكير، بل وأيضًا تغيير سلوكهم العقلى عندما اختبرناهم بأسلوب خفى خارج المعمل.

لهذا كله حرصت على أن أولى الطالب أذنًا صاغية. وأذكر أن اسمه كايبنج بنج، ويدرس الآن فى جامعة كاليفورنيا فى بيركلي. وطبيعى إذا كان بالإمكان إحداث تغيرات واضحة ومهمة فى طريقة تفكير الكبار، فقد بدا من الممكن يقينًا القول بأن تلقين البشر عادات فكرية متمايزة منذ الميلاد من شأنه أن يُفضى إلى فوارق ثقافية شديدة جدًّا فى عادات الفكر.

وشرعت فى قراءة دراسات مقارنة عن طبيعة الفكر ألَّفها فلاسفة ومؤرخون وأنثروبولوجيون من الغرب والشرق على السواء. واكتشفت أن بنج مراسل صحافى أمين. ولاحظت أنه فى الوقت الذى يفترض فيه علماء النفس الشمولية والطابع الكلى للبشر، وجدت باحثين كثيرين فى ميادين بحث مختلفة يعتقدون أن الغربيين (ويعنون بذلك أساسًا الأوروبيين والأمريكيين ومواطنى الكومنولث البريطاني)، وشعوب شرق آسيا (وهم أساسًا شعوب الصين وكوريا واليابان) ترسخت لدى كل جانب منهم منظومات فكر مختلفة جدًّا عن نظيرتها لدى الجانب الآخر على مدى آلاف السنين. علاوة على هذا اتفقت آراء هؤلاء الباحثين جوهريًّا بشأن طبيعة هذه الاختلافات. مثال ذلك أن غالبية من تناولوا هذه المسألة يؤمنون بأن الفكر الغربى مبنى على افتراض أن سلوك الأشياء — الطبيعية والحيوانية والبشرية — يمكن فهمه فى ضوء قواعد صريحة مباشرة. ولوحظ أن الغربيين يهتمون كثيرًا بالتصنيف الفئوي، مما يساعدهم على معرفة أى القواعد التى يتعين تطبيقها على الموضوعات محل البحث والسؤال، كما أن المنطق الصورى له دور فى حل المشكلات. وعلى العكس من هذا شعوب شرق آسيا؛ إذ يُعنَون بالموضوعات فى سياقها العام. إن العالم يبدو فى نظر الآسيويين أكثر تعقدًا مما هو عليه فى نظر الغربيين، كما أن فهم الأحداث عندهم يستلزم التفكير فى كم كبير من العوامل التى يؤثر بعضها فى بعض بطريقة غير بسيطة ولا حتمية. وليس للمنطق الصورى دور كبير فى حل المشكلة. والحقيقة أن الشخص الذى يبالغ فى الاهتمام بالمنطق يمكن اعتباره لم ينضج بعد.

 

 

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

سيحا حارس الأهلي يتعرض لحادث سيارة ويعلق: الحمد لله على فضله

ثلاثة أفلام جديدة فى الطريق.. سلمى أبو ضيف تنتعش سينمائيا

مواعيد مباريات اليوم.. مان سيتي أمام توتنهام وليفانتى مع برشلونة

الطقس اليوم.. ارتفاع طفيف ومؤقت فى درجات الحرارة والعظمى بالقاهرة 38 درجة

تفاصيل رسالة ريبيرو لنجوم الأهلي بعد "هوجة" الغيابات فى مباراة غزل المحلة


هل تفلت هدير عبد الرازق من الحبس.. تعرف على موعد الحكم عليها

سيف الإسلام القذافي يعلن دعمه لتشكيل حكومة جديدة في ليبيا

تغير المناخ يعصف بأوروبا.. احتراق أكثر من 2 مليون فدان فى أسوأ موسم حرائق فى تاريخ القارة.. بعد صيف لاهب توقعات بشتاء قارس ويناير 2026 الأبرد.. انتشار أمراض غير مسبوقة ينقلها البعوض.. وانبعاثات الكربون كارثية

ختام موسم حصاد القمح بالوادى الجديد .. توريد 568 ألف طن قمح للصوامع بنسبة 109% وزيادة 65 ألف طن عن العام الماضى.. تنفيذ 1200 حقل إرشادية بأفضل أنواع التقاوى وإجمالى المساحة المنزرعة 343 ألف فدان

تعرف على مباريات الإسماعيلى حتى نهاية أغسطس فى الدوري


مواعيد القطارات على خط القاهرة أسوان والإسكندرية أسوان والعكس اليوم السبت

محمود ناجى يدير مباراة السنغال وأوغندا اليوم في ربع نهائي أمم افريقيا للمحليين

الإضرابات عرض مستمر فى بريطانيا.. عمال مترو لندن يبدأون إضراباً فى سبتمبر.. العاملون بإيرباص يقررون الإضراب للمطالبة بزيادة الأجور.. وتحركات مرتقبة من الأطباء والممرضين.. والخسائر قد تصل إلى ربع مليار استرلينى

مدحت صالح يتألق بأغانى حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات فى الليلة قبل الختامية من مهرجان القلعة ويعلق: أجمل يوم فى السنة اللى باجى فيه هنا‎.. نسمة عبد العزيز تمتع الجمهور بأجمل المعزوفات

ويجز يغنى أيام حياتى من الألبوم الجديد فى مهرجان العلمين.. صور

أهم الأخبار الفنية على مدار الساعة.. حسام حبيب ينفى عودته لشيرين.. 3 أفلام جديدة تقتحم شاشات السينما المصرية تباعا حتى أكتوبر.. إيرادات فيلم درويش تتجاوز الـ20 مليون جنيه خلال 9 أيام عرض بالسينمات

تضامن عربى مع لبنان.. جامعة الدول تجدد دعمها لاستقرار وسلام بلاد الأرز.. السفير حسام زكى: ندعم بسط الدولة اللبنانية سلطتها على جميع أراضيها وقرار حصر السلاح.. وعلى الجميع وأد الفتنة.. عون: ملتزمون بتطبيق القرار

اليوم غلق باب التقديم على فرص عمل فى السعودية بمرتبات 80 ألف جنيه شهريا

الإمارات تدين الاستيطان والتصعيد العسكرى الإسرائيلى فى غزة

ويجز يشعل حفل مهرجان العلمين بأغنية "خسرت الشعب".. صور

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى