العولمة وتعدد المواقف منها

د. حسين حمودة
د. حسين حمودة
حسين حمودة

إن أية مطالعة سريعة لبعض المواقف المتنوعة، عربيا، إزاء ظاهرة العولمة، خصوصا عند مناقشة علاقتها بالهوية وبالثقافة العربيتين، تكشف بسهولة عن اختلاف وتباين واضحين، حيث يمكن بوضوح رؤية مشهد يكاد ينتمي إلى مسرح قديم، مبنيّ على بنية الثنائيات التبسيطية.. وفي هذا المشهد المسرحي نري ونسمع من يهتف: "تحيا العولمة" يواجه من يصيح: "تسقط العولمة".. والتمعن فى هذا المشهد يكشف زوايا شتي لتحليل هذه الظاهرة وتقييمها، وعلى هذا المستوى يمكن إدراج ما أصبح يسمي "خطاب العولمة المضادة"، أو الخطاب "الذي أنتجته الثقافة العربية الراهنة حول علاقة الثقافة عامة بالعولمة". وفضلا عن أن هذا المشهد، ثم هذا الخطاب، يفصحان عن تعدد المواقع التي يمكن منها الإطلال على هذه الظاهرة، فإنهما يكشفان أيضا، فى الوقت نفسه، عن التباسات عدة كامنة في مكونات أبعادها، سواء على مستوى طرفيها: الفاعل المؤثر المهيمن، ثم المتلقي المتأثر المهَيمن عليه، وأيضًا على مستوى تاريخ العلاقة بينهما وملابسات هذه العلاقة وكيفية أو كيفيات تحققها.

ولعل مما يزيد المواقف من العولمة تعارضا أو تضاربا، ويجعل هذه المواقف تتخطي الاختلاف التقليدي، الذى استمر لزمن ليس قصيرا، في فهم علاقة "الأنا"/ الآخر" أو علاقة "الشرق/الغرب"، أن ظاهرة العولمة تأتي في سياق أكثر تعقيدا من ذلك الذي أثيرت فيه، لفترة زمنية طويلة، علاقة "الأنا"/ الآخر" أو "الشرق/الغرب"، فضلا عن أن العولمة (التي ينظر إليها  البعض على أنها نوع من هيمنة جديدة، بلغة جديدة وبأدوات جديدة) تلوح شاخصة بتعقيدات شتى، وتطل مدججة بأسلحة الاتصالات الحديثة بما تمتلكه من قدرات هائلة، جاذبة ومبهرة، وبما يصاحبها من متغيرات جذرية.

لقد مرت عقود قليلة، فحسب، على بداية استخدام جهاز المذياع (الراديو) الذى لاح، فى زمن ما، وسيلة تكنولوجية مستحدثة فعالة في "توجيه" الرأي العام لأهل لغة ما، أو الذى مثّل – بتعبير فيلسوف الاتصال مارشال ماكلوهن- "البديل المعاصر للطبول البدائية القديمة"، تلك التي كانت تستخدم كي تحشد القبيلة القديمة وتدفعها فى اتجاه بعينه، للمشاركة في حفل أو طقس أو للانخراط في حرب. ولكن تلك العقود القليلة التى مضت حملت معها من ابتكار وسائل "التوجيه" المتقدمة، ومن الاختراعات الجديدة التي يمكن تسخيرها لهذا التوجيه، ما جعل جهاز "الترانزستور" نفسه يغدو جهازا بدائيا..كذلك ارتبطت تلك العقود القليلة بتغيرات هائلة فى سياقات الاتصال وكيفياته، وبتعقّد التصورات لـمفهوم الـ"توجيه" نفسه، ليتخطى مستوى تحريك الآراء السياسية والإيديولوجية إلى مستوى التأثير الخفي، ولكن الفعال، فى الثقافة وفى الذائقة الجمالية، وحتى في التعامل مع الأطعمة والملابس.. إلخ، فضلا عن أن "القبيلة" القديمة التى كانت تجمعها، فى زمن غابر، لغة واحدة، وأحيانا نطاق جغرافى محدود، ثم انفتح لها المجال لتستوعب أبناء اللغة الواحدة فى زمن لاحق، اتسعت الآن لتشمل أرجاء الكرة الأرضية كلها ولغاتها جميعا؛ فالوسائل والاختراعات المستحدثة لم تعد قانعة بالحركة داخل دائرة لغوية أو سمعية محلية بعينها، بل انتقلت إلى دوائر جديدة واسعة للتخاطب، وإلى نطاقات ثقافية بصرية غير محدودة، يمكن للجميع، عبر كل اللغات، أن يفهموها.

هذه الوسائل والاختراعات يصعب على الكثيرين النظر إليها باعتبارها أدوات محايدة مجردة؛ أو يصعب عليهم أن يفصلوا بينها وبين النزوع إلى استخدامها وتوظيفها لتحقيق أهداف ولتسييد قيم بعينها. وتزامن انبثاق هذه الوسائل والاختراعات مع صعود العولمة، قرن بين كل منهما فجعل إحداهما تلوح شارة على الأخرى، كما أضاف هذا التزامن إلى التباس المواقف من العولمة تضارب التصورات حول ظواهر أخرى ـ ليست من العولمة فى شيئ ـ تنتمي إلى العالم الحديث بوجه عام، بل إن هذا التزامن جعل العولمة تتراءى وكأنها ظاهرة جديدة تماما، رغم جذورها الممتدة في تاريخ قديم، قدم عصر النهضة الأوربية نفسه، إذ هي تراكم طبيعي لعملية التحديث التي بزغت في ذلك العصر مقترنة بما صاحبه من نموذج للمعرفة كان، فى الوقت نفسه، نموذجا للقوة. والجديد في ظاهرة العولمة، تبعًا لهذه الحقيقة، يرتبط بمسماها وليس بمحتواها أو بآلياتها، ويتعلق أيضا بسرعتها المتناهية التى تأكدت بجلاء خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين وأوائل هذا القرن، كما يتصل بشموليتها، و"بمركزية الغرب في قيادة حركتها، ثم بمركزية الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة الغرب الذي يقود عملية العولمة". ولكن، مع ذلك، فالعولمة مع سياقها التاريخي الذى يمكن أن يكون ممتدا إلى تاريخ قديم، تلوح الآن بصورتها الحديثة مصحوبة بمتغيرات جديدة هائلة، تتداخل فيها القيم والمنجزات المبهرة مع النوايا الخفية للهيمنة.. ولعل هذا التداخل يكمن وراء تباين أشكال تقييمها، واختلاف المواقف منها أو من بعض جوانبها.

موضوعات متعلقة

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

نانسى عجرم تحيى حفلا غنائيا فى لندن الشهر المقبل

أوهام 5 نجوم وتذاكر مزيفة.. كيف يخدعك نصابو العمرة؟

تفاصيل ميلاد هلال ذو الحجة وموعد إجازة وقفة عرفات وعيد الأضحى 2025

الهند و فيجى تبحثان تعزيز علاقات التعاون

توابع الزلزال.. هزة ارتدادية جديدة بقوة 4.26 ريختر شمال مرسى مطروح


زلزال جديد.. الشبكة القومية ترصد أول هزة ارتدادية بقوة 2.69 ريختر

برشلونة يصنع التاريخ بأرقام مذهلة فى الموسم الحالى

معهد الفلك: الزلزال لم يتجاوز 20 ثانية.. ولم نسجل هزات ارتدادية حتى الآن

زلزال اليوم.. هزة أرضية تضرب القاهرة وعددا من المحافظات.. البحوث الفلكية: قوته 6.4 ريختر على بعد 631 كم شمال رشيد.. ورئيس المعهد: عمق الزلزال كان كبيرًا.. ولم نرصد أى هزات ارتدادية ونتابع توابعه بدقة

عاجل.. رئيس معهد الفلك: عمق زلزال اليوم كان كبيرًا.. ونتابع توابعه بدقة


أغانى أم كلثوم على مسرح عرائس ساقية الصاوى 12 يونيو

محامى رمضان صبحى يكشف حقيقة القبض على شخص يؤدى الامتحان بدلا منه

حر نار.. تحذير عاجل من الأرصاد عن حالة الطقس اليوم الأربعاء 14 مايو 2025

مصر ترحب بتصريحات ترامب الخاصة بحق الشعب الفلسطيني في مستقبل أفضل

بشرى سارة.. "التعليم" تعلن عن مسابقة فى يونيو لتعيين معلمى الحصة

شاهد إنقاذ ياسر إبراهيم الأسطوري لمنع هدف لسيراميكا أمام الأهلي بالوقت القاتل

نجوم العالم يتألقون على السجادة الحمراء فى افتتاح مهرجان كان السينمائي 78 (صور)

الرئيس اللبناني: رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا سينعكس خيرا على لبنان

مدافع بورنموث يقترب من ريال مدريد

وفاة "سما عادل" المصابة فى حريق خط غاز طريق الواحات

لا يفوتك


مواعيد حجز قطارات عيد الأضحى 2025

مواعيد حجز قطارات عيد الأضحى 2025 الثلاثاء، 13 مايو 2025 09:25 م

المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى