خالد دومة يكتب: الراعية 10

كانت حياتنا نحن الثمانية إخوة، تدور في فلك متكرر، يسلم بعضه بعضا، مهام العمل، ليرتقي بعد أن يأتي اللاحق، كان ترتيبي السادسة، آخر الفتيات وبعدي أخوي الصغيرين، نلنا جميعا قسطا من التعليم، عدا أخي الأكبر، فقد أخرجه أبي من المدرسة، بعد أن ثقل عليه عبء العمل في البراري، فهو يشعر بنقص شديد وبضيق كلما اجتمعنا، ولم ينسيه الزمن أمر تعليمه، تزوج ابنة عمته وأنجب منها ولدين وفتاة، أهتم بتعليمهم، وبذل الغالي والنفيس من أجلهم، لعله بتعليمهم يرضى عن نفسه، أما أختي الكبرى فقد كانت الزوجة الثالثة لزوجها، كان لديه زوجتين، توفيتا الواحدة تلو الأخرى وقد أنجب من الأولى أربعة، ومن الثانية اثنين، ومن أختي أنجب أحمد ومي وباهر، ربتهم جميعا، وكانت لهم أما وخادمة، كانت شديدة الطيبة، لم تفرق بين بنيها وأبناء زوجها، لم تكون مرات الأب القاسية، التي تعذب أبناء زوجها من زوجة أخرى، كانت أما للجميع، وكانوا أبناءها جميعا، أحبوها كما أحبتهم وزوجتهم جميعا، حتى بعد أن توفي زوجها، الذي يكبرها بعشرين عاما، لم تقصر في رعايتهم، واكملت رسالتها نحوهم جميعا، فهي الأن ملكة لديهم جميعا، يتمنوا رضاها، وأن تعيش معهم، فالكل يتهافت نحو ذلك، ولكنها تؤثر المعيشة وحدها، يجتمعون يوما في الأسبوع، هم وأبناؤهم يحيطون بها، فهذا أحب شيء لديها، تشعر بسعادة بالغة، حين يحيطون بها أبناؤها وأحفادها، يلاعبونها ويناوشونها، وتقضي معهم أجمل لحظات عمرها، وكان هذه الأيام هي جائزتها الكبرى، التي تكللت بها حياتها وشقائها، في السنوات السابقة، بعد أختي الكبرى، جاء حامد إلى الدنيا، لازم أبي منذ الصغر، كأخي الكبير، ولكن أتاحت له الظروف، أن يكمل دراسته فحصل على الدبلوم، مثل أختي الكبيرة، تعب حامد حين أراد أن يتزوج، فحياة الرعاة حياة صعبة، لا تعرف الهدوء والسكينة، كفاح مستمر متواصل لا هوادة فيه، كان رفض أخوتي من الأخرين، حين يتقدم أحدهم للزواج، أمر طبيعي، فلو أن أحدا من الرعاة، تقدم لأبي، لفكر ألف مرة قبل أن يوافق عليه في نهاية الأمر، تزوج ابنة عمته، التي وافقت عليه للقرابة، وخجلا من رفضهم لأبي، أنجب حامد، ولدين منها، وظل على مهنته سنوات حتى سئمها، وعمل في شركة سائق، وعرف الإستقرار، خاصة أن أسرته صغيرة، ولم يرد أن يتعب ولديه في هذه المهنة الشاقة، رعي الأغنام، التي ورثها عن أبيه، وجده بعد حامد، أنجبت أمي ثلاث فتيات، أنا أخرهم، كانت أمل ثم نجاح، وأنا أخر الفتيات، كانت أمل الزوجة الثانية لزوجها، أستقلت عن الأولى في معيشة منفصلة، وأنجت اثنين، ولد وبنت وعاشت في كنف زوجها، راضية بحالها، وبالقليل الذي تناله منه، سواء أعطى أو لم يعطي لم تشكو شظف العيش، أو بخل زوجها، أو التقطير الشديد، لعل الجوع والحرمان، كانا حليفها، كانت إبسامتها حزينة دائما، تختفي خلفها براكين من الآسى والآلم، كنت ألمح في عينيها عذاب نيران، تكاد تطل منها، ومع ذلك تدفنها في جوفها السحيق، وتحاول أن تخفيها عن الأخرين، ولكنها في نهاية الأمر ترضى بما قسم الله لها من حياة، يكتنفها القلق والتعب.
لم تكن أختي، التي تكبرني بعامين، بأقل شقاء، من الأخريات، تزوجت في الثامنة والثلاثين، كان قطار الزواج ولى مدبرا عنها، في سرعة خاطفة، كان ألمها عميق، وحزنها ممتد ا نهاية له، أرادت الزواج، فتقدم لها رجل بشروطه، هو كانت تعمل في شركة، وتعيش مع أخي الصغير، تدفع جزء من مرتبها في البيت، وتدخر الباقي، تعرفت عليه في العمل، كانت تريد وفقط، أن تشعر بأنها امراءة أنثى كالأخريات، ولكنها دفعت ثمن، ما تريد أن تشعر به، تزوجت وقد أملى عليها شروطه، أجرت شقة وفرشتها من مالها ولم يدفع مليما، حتى مصرفات الزفاف الضيق، أعطته إياه أشترط عليها، أن يقضي معها يوما واحدا في الإسبوع، وافقت حتى يوم صبيحتها، أنطلق لا يعدو على شيء خرج، ولم يأتيها إلا بعد أسبوع، اليوم المتفق عليه، بعد سنه خلى بهذا الشرط، وأصبح يأتي كل إسبوعين أو كل شهر، أو كلما رغب، هو في ذلك وأستقر الأمر على ذلك، يأتي في هذا اليوم، يأكل ويشرب، ويقضي ليلته، ثم يرحل في الصباح التالي، لم تنجب، فعندما يرحل زوجها تنتقل إلى بيت أخانا الأصغر، تعيش معه وبين أبنائه، تتحمل أعباء البيت بعد أن يخرج أخي وزوجته في رعي الأغنام سويا، طيلة النهار، تنكس وتمسح وتغسل وتقضي الأيام بلا هدف، أو طموح، وتمر الأيام بحلوها ومرها، قليلا ما تضحك، أو تبتسم، فالوحدة التي تطاردها، هنا وهناك قتلت فيها كل شغف، أو سعادة، تعيش بلا روح أيضا، بجسد ضامر يعاني من الآم مبرحة في كل مكان، تتسأل ما بينها وبين نفسها، هل وجدت في هذه الدنيا لتعاني، ثم ترحل، أتصل بها يوما، وقد أمرها، أن تذهب إلى الشقة، تعد طعاما لأن ضيفا، سوف يأتي معه، وأمرها أن تعد الطعام، ثم ترحل إلى بيت أخيها كما اعتادت في عدم وجوده، لكنها شكت في الأمر أعدت الطعام، ودخلت البلكونه وأغلقتها، دخل زوجها، وفي يديه امرأة أخرى، بكت في ذلك اليوم بكاء شديدا، بكت بلا صوت، كان نحيبها صامتا قاتلا، دخل بها على حجرة نومها، ليكمل فصول خيانتها واستغفالها، لم تقوى على البقاء في هذا الجحيم، ولكنها لم تبح لأحد بما رأت عينيها، كانت تسمع صوت الضحكات والرقص والأغاني، تمالكت نفسها واستطاعت أن تكتم ثورة بركانها من أن تحرق الجميع، وأولها أن تهدم بيتها، وقد عانت الكثير من أجل إقامته، بعد أن تعب زوجها، بعد رحلة جنسية متعبة مع المرأة، التي جلبها معه، خرجت وأختلست النظر إليهما، وهما مرميان على سريرها، من شدة التعب والإرهاق، كانت عينيها مغرورقتان، بماء من نار، يسقط على خديها وضعت يدها على فمها، تكتم صراخها الصامت، وانطلقت في هدوء وأغلقت ورائها الباب بهدوء، حتى لا يشعر بها أحد، وبعد ساعة أتصلت به لترى أن كان هناك نقص في شيء، شكرها على ذلك وأغلق الهاتف، وأرتمت على فراشها تئن أنينا فاطر القلب، على حظها العاثر، رغم ما فعلته من أجله، وقد حاربتهم جميعا، وقد اللحو عليها في طلاقها منه، لترى مستقبلها، تتزوج وتنجب ككل الفتيات الأخريات من سنها، ولكنها أبت أن تتركه أو تبتعد عنه، وإنها بقيت معه، وباعت الغالي والنفيس من أجله مضحية بنفسها لأجله.
لم تفاتح زوجها، فيما رأت خشية، أن يحتد ويطلقها، إنها لم تنجب، ولن تنجب، وقد شارفت على الأربعين، ولا أمل لها في ذلك، وإنها تعيش مع أخيها تساعده في أعمال البيت، وتربية أبناءه واسمها متزوجة، خير من لقب مطلقة، وظل مائل غير من عدم وجوده، كأنها خاصمت شفتيها الضحك، كل ضحكة هي مصطنعة، حتى لا تبدو بوجه متجهم، ينفر منها الأخرين ويستثقلوها، وتكون عبأ عليهم، لا يتحملونه، كانت طعنة زوجها قاسية، كانت قد اعتادت طعنات الزمن، ولكن هذه الطعنة، كانت شديدة فوق ما يتحمله إنسان، وقد تحملتها هي بين جوانحها، وكان نزيفها مستمر، لم يتوقف، لم تكن أختي جميلة، ولكنها كانت مقبولة روحها، ويبتها تفيض على الأخرين، فتجعلها جميلة، فقدت هذه السمة الأخرى بعد طعنة زوجها، فوجهها فقد كل شيء، تعمل كما تعمل الألأت سمعتها زوجت أخي ذات ليلة، وهي تنتحب، وعندما سألتها، قالت لها إن مغصا ألم بها، أعطتها قرص من شريط للمغص، وجلست بجوارها، حتى راحت في النوم، سألتها بدوري، عندما أخبرتني زوجة أخي فلم تزد على أن قالت، إنها بخير، فاتحتها في أمر زوجها، الذي لا يتذكرها إلا كل شهرة مرة، لماذا لا تتركيه، ربما رزقك الله، بزوج أفضل منه يقدرك وتسعدين معه، ولكنها تنظر لي نظرت أسى، ولا تجيبني، إلا بقولها، إنها سعيدة معه، ولا تطلب أكثر من ذلك، إن يوم واحد في كنفه يسعدها، وهي مشغولة مع أخي الصغير في تربية أبنائه، ولا وقت لديها لأكثر من ذلك، أبتسم لها، وأقبل رأسها ثم أرحل، ولا أزيد في كل مرة عما أفعل.
كان أخي الصغير، أحب إلى قلوبنا جميعا، خاصة نحن الفتيات، كنا ندلله ونلاعبه، أختي الكبيرة، كان تعامله كأبن لها، ونحن الأخريات كعرائس نلهو بها، ونحافظ عليها، أحببناه وأغدقنا عليه من حبنا، وهو كذلك أحبنا جميعا، فهو أقرب لنا من الأخرين، أستقر في بيت أبي، بعد أن أستقل كل منا ببيته، الرجال ببيوتهم وأبنائهم، والفتيات في بيت أزواجهن، عدا أختي التي تكبرني نجاح، التي يأتي إليها زوجها كل شهرة مرة، أو مرتين، على أقصى تقدير له، اثنين من الأبناء، وزوجته طيبة، تساعده في عمله على إكتساب المعاش، وتربية الصغار، وهوالوحيد الذي يعمل في مهنة الرعي، بعد أن شق كل من أخوتي حياته بعد سنوات، في طريق أخر ومهنة أخرى، تمسك هو بها وأظنه أحبها، ولن يقدر على تركها، يخرج وزوجته في الصباح الباكر، ولا يعود إلا في المساء، وتكون أختي التي تقطن معهم في المنزل، تعد لهم كل شيء، وتقوم بإعمال المنزل كاملة، ويعشقها الصغار، فهي لم تنجب، يعاملها أبناء أخي كأنها أمهم الحقيقة، وينادونها أمه، وينادوا أمهم بإسمها، إن هذه الكلمة جعلتها تعطيهم كل شيء، ولا تبخل بشيء في سبيلهم، تراعهم أكثر مما نرعى، نحن أبنائنا، الذين من أصلابنا، وهي راضية بحياتها، وبالقليل من زوجها الغائب الحاضر، وأخي يحبها، فهي تملأ عليه حياته بهجة، ولم تقصر نحوها زوجة أخي، فهي تقدر ما تفعله من أجلها ومن أجل رعاية بيتها وأبنائها الصغار، ولولاها لما أستطاعت مساعدة زوجها، وأظنها قد أحبت هذه المهنة، وهذا الشقاء، فلم تعد تحتمل أن تكون بعيدة، عن جو الأغنام، والرعي في الفلوات، والهجرة اليومية من مكان لمكان، ومن حقل إلى حقل، تسحب عصاها، وتتبع خطى أخي، وقطيعة، وكثير ما يتركها بجوار الأغنام، ليذهب لإحضار دواء أو بيع أو شراء أو الذهاب إلى السوق، أو حتى البحث عن كلأ جديد، بعد أن ينتهي من الموجود، إنها رحلات لا تنتهي، ودائرة السعي فيها لا يتوقف، ولعلها لو لم تحبه، لم تحملت هذا الشقاء الأبدي، خلف المجهول، إنها لا تعلم، أين تذهب في الغد؟ ولا بعد الغد؟ أينما توفر الكلأ فثم يوم، أو بعض يوم، هي تمشي مغمضة العينين، وراء زوجها، وأينما يرحل ترحل هي الأخرى، وأينما يحط رحاله، تحط وهي لم تسأله يوما، أين نحن غدا، وأين نذهب؟ وإلى أين ننتقل بعد ذلك، هو نفسه ربما لا يدري شيء عن غد كل ما يعرفه، أن يستيقظ في الصباح، يتناول فطار وكوب الشاي، ويسحب عصاه، ويخرج إنها قطعة منه، لا يفقأ أرقها أبدا إنها كعضو من أعضائه.
رغم أننا جميعا رعاة، وراثة أب عن جد، وأننا على مدار سنوات وقرون، نحترف هذه المهنة، إلا إننا جميعا مخلتفين، لا يشبه بعضنا بعضا، كأننا لسنا أخوة أشقاء، أو أبناء مهنة واحدة، أحترفناها منذ نعومة أظفارنا، كان كل منا يتعلم شيء غير الأخرين، أو يتناول هذه المهنة من جانب أخر، لها مئات الأوجة، نرى وجوه مختلفة، لها طابع مختلف، لم تكن تلك الأساسيات، التي مررنا بها جميعا، لتخلق منا نماذج مكررة متشابه، كنا نختلف حتى في عشق الأوقات المختلفة، والأماكن المختلفة، يروق لي، ما لا يروق لأختي الأكبر مني، ومنا من لا يشعر بشيء، من سعادة أو حزن، إنما هو يعيش فقط، يتقن التعامل مع الأغنام، مصدر رزق وطعام له، لا يتطرق ذهنه لغير هذا الشعور والإحساس، خرجنا جميعا من صلب أبي، إلى رحم أمي، إلى الحياة، ثم فرقتنا كل في وادي يهيم، جمعنا البيت، ودفيء أمي طعام واحد، وفراش واحد، ونفوس غريبة، تمتد يدنا حول الطعام، قبل خروجنا إلى البرية، لتعود في المساء منهكة، تلتهم طعامها في تعب، وتسكن من شدة التعب، حتى نستيقظ على صوت أبي، وخوف أمي، في بيت متطرف عن العمران، على أطراف القرية، عزلة تامة، وهروب إلى حيث الجهاد المتواصل، تشبعت من الخلاء، مارست فيه كل طقوس العبادة والألحاد، كان إيماني في بعض الأوقات، عنيف شديد صامد، لعل تيار يحاول أن يهدمه لا تزعزعه الرياح الهوجاء، أأتمر بأمره، أسعى في الحياة راضية، بما قسم لي ربي منه، كنت أشعر وكأني نبية لديه، الدعوة لكن ينقصني الجهر بها، ودعوة الناس، وأرشادهم، أنشر من المحبة، ما أستطيع ودون مقالب، أرتفع وأشمخ لعقلي وقلبي، كانت هذه الصحوات الإيمانية أقرب إلى قلب طفل، خائف يترقب، وينتظر من الحياة، أن تقبل عليه، وهو نقي الفؤاد، نقي السريرة، وكانت هناك أيام أخر لا تمت لهذه الأيام بصلة، أيام العناد، والكفر والخروج عن كل ملة، ومعتقد، فلا شيء سوى الاضطراب، والتذبذ والقلق المتصل، كنت في هذه الأيام مشتتة، أذهب إلى بداية القطيع، وأرتد إلى أخره، أخشى أن يكون الخطر قائم، على رأسي، أو على مقربة مني، يدفعني إلى القنوط واليأس التراخي والإحباط، وموقف من الحياة والبشر والكون، أتحفز للضر القابع في عقلي وما يطوف حول رأسي من وسواس، يساهم في تحطيم، كل أمل أو طموح، ويدغدغ النفس والمشاعر، ويسلك بي طريق النفور والضيق، فألعن الحياة، والناس والزمن، وكل ما يحيط بي، كل هذا في داخلي، في عالمي الخاص، وما بين الإيمان والألحاد، كانت هناك أيام لا موت فيها، ولا حياة، لا سعادة ولا فرح، أيام لا أدري لي فيها شعورا واضحا، أو أي نوع من الوجود النفسي، أو الروحي كانت تشق من أيامي أو من عمري، فليس لها ماهية، تندرج تحتها، ربما كانت أمي تلاحظ على بعض التغير، في أيامي المختلفة، ولكنها تجيد الشعور بنا، ولكنها لا تدري كيف تعالج؟ أو تتصرف في مثل هذه الأمور، فهي لم تدخل مدارس وقسطها من هذه الحياة ضئيل، وهي لا تخلو ساعة من نهار، أو ليل دون عمل، تعمل في خدمة أبي ونحن الأبناء، منذ أن تفيق إلى أن تضع جسدها المنهك، أخر الليل على فراشها الخشن، نظرات أبي لا تريد أن تستفسر إلا عن أحوال العمل، والقطيع، فإن كان بخير فكل الأمور على ما يرام وأحسن حال، فيما عدى ذلك، فهي تفاهات في نظره، لعب عيال خبل وضياع وقت، كأننا خُلِقنا مِعَى نجري حياتنا كلها في ملئها، هذا هو العقل والصواب.
Trending Plus