سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 17 يناير 1961.. بيرم التونسى يشكر الرئيس جمال عبدالناصر ويشعر أن الموت قريب منه ويرجو أن تتذكره الدولة بعد مماته وألا يندثر اسمه

فاضت روح الشاعر بيرم التونسى أمام زوجته وأبنائه يوم 5 يناير 1961، وكان عمره 68 عاما تقريبا، فهو من مواليد 23 مارس سنة 1893 بالإسكندرية، وكان إنتاجه الإبداعى هائلا كما وكيفا فى الشعر والزجل والأغانى والأوبريتات والملاحم والدراما، ومع ذلك مات فقيرا فى شقة متواضعة بشارع النواوى بالسيدة زينب، ولم يترك شيئا سوى إرثه الإبداعى العظيم، وناشدت مجلة «الكواكب» المسؤولين أن يكرموه فى مماته، كما كرموه فى حياته، وعمل معاش شهرى لأطفاله الصغار وزوجته، حسبما جاء فى عدد المجلة «494»، 17 يناير، مثل هذا اليوم، 1961.
طرحت «الكواكب» مناشدتها فى حوار أجراه الكاتب الصحفى جميل الباجورى مع بيرم قبل وفاته بأيام، ونشرته بعد 12 يوما من رحيله، ووصفه الباجورى، قائلا: «قبل وفاته بأيام، التقيت به، رجل عجوز، محنى الظهر، يحمل فى يده اليسرى حقيبة صغيرة، وبين أصابع يده اليمنى سيجارة يشد منها فى شغف، ثم يتوقف ليلتقط أنفاسه التى تخرج من صدره كالنار، ويكح ويظل هكذا لحظات ثم يعود ليشد من سيجارته، وفى ركن منزو بمقهى بلدى بميدان زين العابدين جلس وألقى بالشنطة عل كرسى بجواره ثم أخرج منها ورقا وقلما وراح يكتب غير عابئ بهذه الضوضاء، التى تخرج من صوت الراديو أوالتى تأتيه من الخارج من أصوات الترام والأتوبيس أو الباعة أو القطار، وفى قلب هذه الضوضاء يهبط عليه الوحى».
كان بيرم يكتب الحلقة الثالثة والسبعين من ملحمته «الظاهر بيبرس» للإذاعة، ولما سأله «الباجورى» إذا كان لديه وقت لدردشة سريعة، رد: «قوى، شرط ألا تسألنى سؤالا سبق أن وجهه لى أحد الزملاء، كما أننى أجيبك بما لم يسبق نشره، وفى ظل هذا الاتفاق دار الحوار، وبدأ بما إذا كان يفضل أن الجائزة التى حصل عليها فى عيد العلم 1960 كانت مالا، أجاب: «أسجل شكرى للرئيس جمال عبدالناصر وللدولة التى تذكرتنى فى هذه المناسبة، ولا أنكر القول إننى دائما فى حاجة إلى المال، وأرجو أن تتذكرنى الدولة عندما أموت وألا يندثر اسمى».
وعن سبب ابتعاد زجله عن النقد والهجوم اللاذع، كشف: «أقر واعترف أننى تغيرت، تغيرت نظرتى للحياة، علمتنى التجارب أننى قليل التجربة، وأننى كلما ازددت علما لا أعلم، وكنت شديد الوطأة على من أتناولهم بالنقد أو الهجوم، فلما جاوزت الشباب رأيت الحكمة فى التغاضى عن المهاترات، وأترك الفرصة للشتامين لكى يستوفوا منى الديون القديمة، ولست أرى حرجا فى ذلك فقد سبقتهم إلى الهجو المقذع، ولكن أرجو ألا ينسى هؤلاء أننى قط، وللقط مخالب لا يحجم عن استعمالها إذا حاول أحد أن يتعدى بقوله».
وعن حاله مع الربو، قال: «يعيش فى صدرى منذ زمن بعيد، واستطعت أن أدرس خصائصه وأحببته لأنه مرض جميل وأجمل ما فيه أنه ديكتاتور لا يسمح لأى مرض آخر أن ينافسه أو يشاركه فى جسدى، ولكنه يقتلنى، واستطعت أن أقلع عن الكثير من عاداتى، ولكنى رغم كل المحاولات لم أستطع أن ابتعد عن هذه المحروقة السيجارة».
وقال عن بداياته: «شغفت بالمطالعة، وأنا طفل فى السابعة ولم يكن فى مقدورى أن أفهم أكثر من القصص الشعبية الشائعة، وأعجبنى منها قصة «السلك والوابور» و«الفقر والإسكافى»، وكلها ملاحم زجلية تستهوى الأطفال وأشباه الأطفال من الرجال، وزدت شغفا بهذه الملاحم عندما سمعتها ملحنة تلقى على الدفوف من المداحين فى ميدان «أبوالعباس» بالإسكندرية، وينشدون قصصا رائعة عن بطولة السيد البدوى وإبراهيم الدسوقى، وكنت أحفظ كل ما يقال».
يستطرد بيرم: «كنت أسير خلف الأدباتية الشحاذين الذين يلقون أزجالهم على الجالسين فى المقاهى، كانوا يلقون الأزجال موقعة على «دربكة» يحملها تابع الأدباتى، وكنت شديد الإعجاب بأوزانهم المرتجلة بما يناسب المقام، وكل محصولى من الأدب الشعبى جاء من هذه المصادر، وعمرى وقتئذ اثنا عشر عاما، ثم عرفت طريق مكتبة البلدية، فاستعرت مجموعة مجلة «الأستاذ» التى كان يصدرها عبدالله النديم محرك الثورة العرابية، وكان أول من استخدم الأزجال السياسية فى السياسة والاجتماع لمعالجة المشاكل، وإلى أن بلغت السادسة عشرة من عمرى كنت أتأرجح بين المدارس الأهلية وبين مصنع الحرير الذى تركه والدى تحت وصاية أحد المغاربة بالإسكندرية بحى الميدان».
يضيف: «فى الثامنة عشرة من عمرى تزوجت، وماتت زوجتى قبل أن أغادر البلاد منفيا، ولى منها طفلان هما الآن فتى واحد، ولى الآن سيدة ولها أولاد»، ويعترف بأنه لم يعرف الحب فى حياته، ويقول: «الحرمان أقوى من الحب، وكنت دائما على «الحديدة»، والمرأة لا تحب الرجال اللى على «الحديدة»، وأنا الآن متنقل بين دور الصحف والفنانين والإذاعة والتليفزيون والحمد لله على كل حال، بدأت كفاحى منذ زمن بعيد، وما زلت أسير فى الطريق، ولكنى أشعر أن الموت قريب منى، والله ولى النعم».
Trending Plus