خالد دومة يكتب: الراعية 11

وافق أبي بصعوبة على التحاقي بالجامعة، بعد حصولي على مجموع يؤهلني للحاق بها، جامعة أسيوط كنت أسمع باسمها للمرة الأولى، في حياتي لم يكن الإصرار أم امتناع أبي، يمثل شيئا، ولكن الأمر قد يكون أن حظي من الجمال محدود، فأراد أن يلهني بالتعليم، عن أن يكون لدي رغبة في الزواج، وأن حظي في ذلك محدود، وقد لا يجيء العريس، ذهب أخي معي واطمأن علي، وسملني للمدينة الجامعية، كما أخبره أبي، بعيدة عن البيت أبيت، عن الرعي، والغنم وعروستي.
غبت سنوات قضيتها كأني ألهث وراء شيئا، وها أنا أدركه الآن، حياة الجامعة، والطلاب والعلم، حياة نظيفة خالية من روث البهائم، التي كانت تعيش معنا، وترافقنا كل يوم، وكل دقيقة، كنت منطوية على نفسي، أخجل من الاختلاط، ثلاث فتيات أحداهما من قرية بجوار قريتنا، التصقت بها، وكنت أسير على خطاها، أفعل ما تفعل، أقوم إذا قامت، وآوي إلى فراشي كلما أوت، وأحيانا أنام معها على سريرها، ولم تمانع كانت تشعر بأنني بدونها أتوه، ولا أستطيع فعل شيء، لم أتعرف على أحد في سنتي الأولى في الجامعة.
كنت أطير إلى المدينة لأحتمي بصديقتي، تعلمت الكثير على يديها، وكانت لا تضجر، ولا تمل من طفولتي المزعجة الخائفة، وتحاول أن أنفتح على العالم، طالما أن ما أفعل ليس جريمة ولا خطيئة فيه، الحياة قاسية وسوف تعاني فيها إن ظللت هكذا تخافي من كل شيء، كنت أحاول أن أتكيف على ذلك في السنة الثانية، أندمجت في شلة صغيرة فتاتين وأربع شباب، كانوا من الأقاليم جميعنا في غربة، عن موطأ نشأتنا، نحاول أن نخفف من ألم الغربة، أنا الوحيدة التي لم أكن أحن إلى بيتنا، ما عدا أمي، وكانت لا تبالي مادمت سعيدة.
لم أكن أسافر في إجازة نصف العام، كنت أظل جالسة في المدينة، أنا وبعض الفتيات، التي هربن من زوجات أبائهن أو أزواج أمهاتهن، ولا يعدن مثلي إلا في نهاية العام، كان شعور الوحدة، الذي أعتدت عليه لسنوات يخزلني الأن وأحن إلى زميلاتي، وقد غادرن لقضاء الإجازة في بهجة مع عائلاتهم، لم أرد أن أعود إلى سنوات القطيع.
أشعر كأني تحررت بعد أن اطلعت على حياة جديد، هي الحياة الحقيقة، التي كنت أفتقدها، ولم تتطرأ بخيالي لأن خيالي مات، اغتيل منذ صغري، اغتالته صوت الأغنام والأبقار، وصوت أبي، وصريخ أخوتي، وصمت أمي، لو استطعت لعشت هنا، حياتي كلها، ولكنها سنوات، ثم أعود، لكنني تغيرت، ولن أرجع، إنها الأن لا تناسبني، وسوف أبحث عن عمل، يليق بشهادتي وتعليمي، هل سيوافق أبي؟ لا أدري، ولكنني ما أعرفه جيدا، أنني لن أعود أرعى غنما، ولا بقرا، أنني بدأت من هنا، عرفت نفسي وطاقتي، ومن يدري أن الأيام كثيرا ما تفاجئنا بأشياء، لم نكن لنتخيلها، أو تطرأ بأذهاننا يوما، ولعل الأيام تأتي بما هو أفضل، ألم أكن أحلم بأني يوما ما سوف تطأ قدمي الجامعة، وها أنا الان في السنة الثالث، ولم يعد سوى عام وأحمل فوق رأسي شهادة تاجا يتطلع له الكثير، في حين لا يقدر عليه سوى القليل، الأيام تمر كقطار سريع، لا يمهلنا أن نتأمل شيء، وتطحننا عجلاته، وتمضي بنا في نهاية الأمر إلى المجهول، اه يبطأ حين تكون التعاسة ملازمة لنا، أم إذا شعرنا بشيء من الرضا والقبول، فإنها تسرع بلا شفقة، ولا رحمة، لتكون عادلة، آها كانت تطول أيام الآسى، فلماذا لا تطول أيام الشعور بالفرحة، ما أظلمها وأظلمها، تظلم حتى تكون حالكة السواد، وتظلم حتى لا يكون العدل مصطلح خارج حدود أوطاننا.
كانت سنوات ما بعد الجامعة، سنوات عصيبة، أو سنوات القلق والاضطراب، وربما الخوف، أبي الذي كانت عصاه، تنزل بكل قوة على أجسادنا، تلهب ظهورنا، لم يعد يقوى، على أن يرفع صوته بالكلام، صدره هلهله التدخين، والكحة لا تنقطع عنه ليل كان أو نهار، والأدوية تهمد جسده أكثر، أظنه لا ينام نوما عميقا، فطوال الليل، تزداد الكحة، وصدره يعلو، ويهب ولا يكف عن إصدار صوت أنين، يقوم في الليل مرات، يذهب إلى الحمام، وقبل الفجر يتكأ على عصاه، ويذهب إلى المسجد، ينتظر الصلاة، ثم يأتي إلى البيت، تقدم له أمي كوب الحليب الممزوج بالشاي، يرتشفه وهو متكيء، ثم ينعس قليلا، وعلى فترات، كأن أبي كان جبلا دكته مدفعية جيش من جيوش الأعداء، فأتت عليه إلا بقايا منه، وأمي التي لم تكن تهمد طوال اليوم، حتى تأوي إلى فراشها، لم تعد قادرة على فعل شيء، سوى الصلاة، وعمل أقداح الشاي لأبي، حينما يطلبها تجلس في البيت، يحي بها الصغار ترعاهم جالسة، تضع رضيع فوق حجرها، حتى تنتهي أمه من عمل البيت، وتراقبهم وهم يلعبون، كأنما تراقب أفراخها، وهي تلهو حولها، كنت وأختي التي تكبرني، محط خوف أبي وأمي لأننا لم نتزوج بعد، هل فاتنا قطار الزواج، ولم نلتحق به، ولن يعود ثانية، ليمر من أمام بيتنا، إننا وهم على قيد الحياة في منعة، ولكن لو ماتا فمن لنا، كل واحد سيهتهم بزوجته وبنيه، ولن يفرغ أحد لنا وسنكون عبأ عليهم، وربما لن نقدر وحدنا على مواجهة الحياة، ولكنهما لا يظهرنا لنا شيء من القلق، الذي يعتريهم، فهي في الأول والأخر مسالة نصيب، كما يقولون، ولا داعي للقلق والتوتر، فحين يأتي فلن يصده أحد.
أذكر عندما كان في سنواته الأخيرة مرض أبي، كأن طفل صغير يتأوه من الألم، صداع يشق رأسه نصفين، كل صباح، نسمع أنينا غريبا، وحين نلتف حول مائدة الطعام، يبدو على عينيه، وقد أحمرت، وأثر البكاء على عينيه، كان عهدنا به دائما صلبا، لا يظهر لنا إلا صلابة وجهه، كأن البكاء والرحمة، شيمة الصغار من بني الإنسان، لو إنه فضفض قليلا، لو إن كبريائه، كأب نسيه، ولو للحظات، لكنا استطعنا عمل شيء، فالمرض ضعف، فلا يجب أن يكون ضعيفا، ولو أمامنا نحن فقط، كأن الشكوى تقلل من رجولته، من أبوته، كأنه حديد، كانت أمي كذلك، ولكن في أبي الأمر متعلق بالكرامة، والقوة والضعف، أن تكون ضعيفا فلا، يجب أن يراك أبنائك. كان الورم قد استفحل وأطار من عينيه كل نوم، وكل راحة، باح لأمي التي كانت تراه يتعذب، ثم أصرت على إخبار أخي الكبير، ذهب به إلى الطبيب، فطلب منه أشعة وفحوصات، كان أبي يتكاسل في الذهاب، يأخذه أخي رغم عنه، ويذهب به.
كانت نتيجة الأشعة، ورم في الرأس، خبيث لم نخبر أبي، إن الأمر خطير، أخبرناه أن الأمر لا يعدو أن يكون كيس دهني في الراس، يضغط على عصب الأطراف، فالأمر يحتاج إلى عملية بسيطة، ويعود أبي أفضل من الأول، العملية مكلفة، ولكن يجب أن نتصرف، كان لأبي بعض القراريط، قررنا أن نبيعها، لنعمل العملية، ولو علم أبي لما وافق، ولكننا أحتلنا عليه، في بيعها لنشترى أرض أخرى، وعندما باع تمهلنا في الشراء، وقلنا له بعد أن يخرج من العملية، نتمم الشراء، وافق أبي، دفعنا ثمنها ودخل أبي، وتمت كما يقول الأطباء بنجاح، ولكن هناك بعض الأثار الوقتية سيشعر بها في الشهور الأولى، ثم تزول مع الوقت، لكن أبي لم يعد كما كان، كما قال الأطباء، عامين من المعاناة، رحلة لم تنتهي، إغماء يستمر بدقائق ثم ساعات، ضعف في الذكرة، سرحان أوقات طويلة، كنت أنظر إلى أبي، الذي كان يملأنا صوته رعبا، هو الأن بالكاد يذهب إلى الحمام بمفرده، ثم هو جالس أغلب الوقت بجوار أمي طفل صغير، لا تفارقه خشية أن يضر نفسه، كان وعيه حاضر في معظم الأوقات، ولكنه كأنما كان يريد الهروب من هذه اللحظات، لا يريد أن يعترف بالمرض، والضعف، نناوله ليأكل أو يشرب، فتبدو على ملامحه الضيق، عامين من الأرق المتواصل، حتى كأنه سئم الحياة بهذا الشكل، يأكل على فترات متباعدة، نضع له الطعام فيتناول القليل منه، ما يسد الرمق، نصنع لك غيره يا أبي، يشير بأن لا، لا يريد، كان يريد أن يموت، ولا يعلن ذلك خشية من عقاب الله، يتوضأ ويصلي في يوم الجمعة، يأخذه أخي الصغير، يسانده مرة، يحمله على الحمار مرة، ويذهب به إلى الجامع الكبير، ليصلي الجمعة، فحالته النفسية تتحسن قليلا، عندما يذهب إلى المسجد، ليشاهد صلاة الجماعة مع الناس، قرر أخي عندما رآه ينشرح صدره، أن يتحمل معاناة حمله ليصلى، ولولا تعبه الشديد لأخذه أخي كل فرض إلى المسجد، ولكن ذلك أمر شاق.
يبدو أن المرض بدأ يعاود أبي مرة أخرى، فالصداع عاد من جديد، ولكن أبي هذه المرة لا يقاوم في أن يبكي أمامنا، وأن يصرخ في وجه الحياة، من شدة الألم، عدنا إلى نقطة الصفر مرة أخرى، عدنا إلى ما فعلناه في المرة السابقة من تحاليل وأشعة، ونفس النتيجة، لم يتم استئصال الورم، على خير ما يجب، في العامين السابقين كان الورم، قد بدأ يستأنف عمله في رأس أبي من جديد، الظروف تختلف، لم نكن نملك المال الكافي، وحتى لوكنا نملك المال، قال الأطباء إنه من الصعب أن نفتح مرة أخرى، ولو استطعنا فإن الورم أمتد بجذوره إلى خلايا الرأس، فربما أصيب بالعمى أو الشلل الكامل، وإن نتيجة العملية، بعد كل هذا ضئيلة النجاح، فلنتركه حتى يقضي نحبه، وأن نستخدم المسكنات القوية، هذا ما قال الطب، إنه فعل كل ما يمكن ان يفعله، في مثل حالة ابي، كان ميت يسير بيننا، كلنا يعلم مصيره، أشهر قليلة، ثم يغيبه الموت.
تكاتفنا في شراء الأدوية، باهظة الثمن، باعت أمي كل ما تحصلت عليه من شقى السنين، كنت أعمل واشترك في جمعية أعطيتها كلها لأخي، كل منا ساعد قدر طاقته، ليموت أبي في سلام، ثلاثة أشهر أخرى، ورحل أبي بكل آلامه، ولم يعد بيننا، كان وجوده بيننا، رمزا لتماسكنا جميعا، هو الرباط الذي يؤلف بيننا، رغم ضعفه في أواخر أيامه، لم نكن نعلم ذلك حين كان بيننا، إن أمي أضعف من أن تكون رباطا صلبا، بدأنا في التفكك شيئا فشيئا، الأصوات العالية، لم يكن صوت يجرؤ على أن يرتفع في وجود أبي، رغم مرضه، ربما كان هناك تمرد صامت، من بعض أخوتي، نار هامدة كالرماد، ما إن رحل حتى بدأت في الاشتعال والاتساع، حتى أحرقتنا وشتت بعد سنوات شمل ما عاش أبي يحافظ عليه.
Trending Plus