جمال عبد الناصر يكتب: العقاد.. عابر الضوء بين الشرق والغرب
في مثل هذا اليوم الحادي عشر من نوفمبر، تتسلل ذكرى الرحيل كضوء خافت يمر في صالة عرض قديمة، حيث لا يزال مصطفى العقاد حاضرًا، لا كشريط سينمائي يُعاد، بل كنبض باق في ذاكرة الفن والإنسان.
مصطفي العقاد حمل معه إلى هوليوود حلمًا عربيًا مدهشًا وهو أن تكون الكاميرا وسيلة للتعارف بين الحضارات، لا سلاحًا للهيمنة أو التزييف، وفي زمنٍ كانت فيه الصورة تُستخدم لفرض رواية واحدة، جاء العقاد ليقول بهدوء المبدع العارف : نحن أيضا كعرب نملك الحكاية ووجهة النظر .
لم يدخل هوليوود ليُقلدها، بل ليحاورها، فكانت أفلامه تجسيدًا لمعادلة نادرة، وهي كيف تكون عالميًا دون أن تتنازل عن جذورك، وأن تكون عربيًا دون أن تنغلق على ذاتك، ونجح في ذلك نجاحا كبيرا .
حين أخرج العقاد "الرسالة"، لم يكن يسعى لتوثيق واقعة دينية بقدر ما كان يحاول أن يجعل من الضوء صلاة، ومن الإيمان تجربة بصرية تمس القلب قبل العين، ولذلك أحبّه من لم يعرفوا العربية، وتأثر به من لم يقرأوا القرآن، لقد صنع من الفيلم خطابًا إنسانيًا، جمع الشرق والغرب في لحظة فهم مشتركة.
المخرج الذي آمن أن الصورة يمكن أن تُصلّي
وفي "عمر المختار"، جعل من الرمال الليبية مسرحًا للبطولة والحرية، ومن وجه أنطوني كوين مرآةً للمقاومة التي لا تموت، وكان العقاد يرى أن البطولة ليست صرخة في وجه المستعمر فقط، بل صوت الضمير حين يرفض القهر أيًّا كان شكله.
لم يكن العقاد مخرجًا فحسب، بل رسولًا للهوية المضيئة، حمل وجع الشرق إلى العالم دون أن يصرخ، وجعل من السينما رسالة حوار لا صدام. لذلك بقيت أفلامه رغم مرور الزمن، لأنها لم تُصنع لتُعرض فقط، بل لتُخلَّد.
ورحل العقاد كما عاش في أرضٍ عربية، وبين حلم لم يكتمل رحل جسدًا في تفجير غادر، لكن صوره ما زالت تمشي في ذاكرة الشعوب، تُذكّرنا بأن الفن يمكن أن يكون صلاة، وأن المخرج حين يمتلك الإيمان، يستطيع أن يُصوّر اللهفة والكرامة كما لو كان يصوّر النور نفسه.
في ذكرى مصطفى العقاد، لا نرثيه بل نُعيد اكتشافه، فهو العربي الذي صدّق أن الحكاية العربية تستحق أن تُروى للعالم، لا لتبرير وجودها، بل لتُثبت أن العالم لا يكتمل بدونها.
Trending Plus