سعيد الكفراوى فى ذكرى رحيله وإخلاصه لعالم القرية
تؤكد أغلب القراءات النقدية على أن عالم سعيد الكفراوى، الذي تمر اليوم الذكرى الخامسة لرحيله (14 نوفمبر 2020)، يتأسس على القرية المصرية بوصفها فضاء يلتقى فيه الواقع بالأسطورة، حيث تتجاور اليوميات البسيطة مع الحكايات الشعبية، والموت مع الفرح فى مشهد إنسانى كثيف، تبدو فيه الحكاية البسيطة مدخلًا إلى أسئلة أعمق عن الوجود والقدر والكرامة الإنسانية.
لم تكن القرية عند الكفراوى خلفية جاهزة للأحداث، بل كانت بطلة النص، والشخصية الكبرى التى تتخلق داخلها بقية الشخصيات والوقائع.
منذ مجموعته الأولى "مدينة الموت الجميل"، ثم "ستر العورة" و"سدرة المنتهى" و"مجرى العيون" و"دوائر من حنين" وغيرها، يضع الكفراوى قارئه فى قلب قرية تبدو مألوفة فى تفاصيلها، بيت طينى، ساحة واسعة، حقل ممتد، ترعة صغيرة، مسجد وزاوية ومقهى ريفى، لكنه لا يكتفى بتسجيل المظهر الخارجى لهذه العوالم، بل يغوص وراءها إلى ما يختزنه المكان من مخاوف وأساطير وذاكرة جمعية.
فى قصة واحدة يمكن أن نرى الفلاح خارجًا إلى السوق فى مشهد شديد الواقعية، ثم نفاجأ بأن حركة الريح، أو صوتًا غامضًا عند حافة الحقل، يتحول إلى علامة على حضور غيبى أو نبوءة غير معلنة.
القرية بوصفها بطلًا جماعيًّا
فى قصص سعيد الكفراوى لا يتحرك الأبطال فرادى، القرية كلها تشارك فى صناعة الحدث: نساء وأطفال ورجال يجتمعون عند المقهى يناقشون خبرًا عن حرب بعيدة، أو قرارًا حكوميًّا سيسرى أثره حتى هذا الركن المنسى من البلاد.
الفرح يتحول إلى اختبار لقدرة الناس على مقاومة الفقر، والجنازة تصبح مناسبة لطرح سؤال عن معنى العدل، وحكايات الجدات قبل النوم تتداخل مع أساطير الجن والعفاريت، فتمنح وعى الطفل الأول إحساسًا بأن العالم أوسع من حدود القرية، لكنه فى الوقت نفسه محكوم بقوى خفية لا ترى.
فى عدد من قصصه نجد شخصية عادية جدًّا، فلاحًا أو امرأة بسيطة، تعيش لحظة فارقة: فقد حبيب، أو ضياع بهيمة البيت، أو مرض طفل. المأساة هنا ليست كبيرة بالمعنى "الملحمى"، لكنها تهزّ عالم الشخصية كله، وتُظهر كيف يمكن لواقعة صغيرة أن تكشف هشاشة الحياة وقسوة الزمن. هذا التوتر بين بساطة السبب وضخامة الأثر هو ما يمنح قصص الكفراوى طابعها الإنسانى الخاص.
ويكتب سعيد الكفراوى بلغة قريبة من العامية المصرية، دون أن تتحول قصصه إلى "تسجيل" شفوى أو حكى مباشر، الجملة قصيرة، محكمة، تحمل إيقاع الكلام اليومى، لكنها مشغولة بعناية تجعل من المفردات العادية حاملًا لمعانٍ أبعد مما يبدو لأول وهلة.
فى أحد حواراته شبّه الكفراوى الكتابة بحلب اللبن: "كتابة، كتابة، حتى يتدفق اللبن"، الصورة هنا تكشف جوهر موقفه من فعل الكتابة؛ لا إيمان بالضربة المفاجئة وحدها، بل بعمل يومى شاق، وصبر طويل على الجملة، حتى تحضر اللغة فى أنقى حالاتها، ويخرج النص وقد تخلص من الزوائد وبقى منه ما يلزم الحكاية فقط.
وحصل سعيد الكفراوى على جائزة السلطان قابوس بن سعيد للقصة القصيرة عن مجموعته "البغدادية"، ثم جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 2016، ليأتى التكريم الرسمى متأخرًا بعض الشىء، لكنه مؤكد لما عرفه قراؤه مبكرًا: أن هذا الكاتب الذى خرج من قرية صغيرة فى دلتا مصر نجح فى أن يحوّل عالمه المحدود جغرافيًّا إلى أسطورة إنسانية واسعة، يتماهى فيها القارئ، أينما كان، مع خوف الفلاح وأحلامه، ومع فرح القرية وموتاها، ومع تلك المنطقة الدقيقة التى يتعانق فيها الواقع بالأسطورة، فلا يعود ممكنًا التفريق بينهما.
Trending Plus