كتب لها معنى.. الحضارة أول كتاب فى سلسلة عالم المعرفة

فى يناير 1978 انطلقت من الكويت واحدة من أهم السلاسل الثقافية العربية، سلسلة "عالم المعرفة" التى يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وكان باكورة إصداراتها كتابًا يحمل عنوانًا بسيطًا وكاشفًا فى آن "الحضارة: دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها" للمؤرخ الكبير الدكتور حسين مؤنس.

اختيار هذا الكتاب لافتتاح السلسلة لم يكن صدفة؛ فـ"عالم المعرفة" ولدت بفكرة تقديم مدخل واسع للثقافة الإنسانية للقارئ العربى غير المتخصص، والبدء من سؤال "ما هى الحضارة؟" يعنى أن المشروع منذ لحظته الأولى كان مشغولًا بالإطار الكبير الذى تتحرك داخله سائر المعارف.

غلاف كتاب الحضارة

كتاب تأسيسى لا يزال حاضرًا

يقدم كتاب "الحضارة" فى طبعته الثانية، التى عادت السلسلة لنشرها فى التسعينيات، بوصفه العمل الذى دشن علاقة خاصة بين "عالم المعرفة" والقارئ العربى، وتحول سريعًا إلى مرجع مبسط ولكنه رصين فى موضوع شائك عادة ما يُترك للأكاديميين المتخصصين.

الكتاب، الواقع فى نحو 350 صفحة، ليس "قصة حضارة واحدة"، بل محاولة لصياغة دراسة عامة للحضارة الإنسانية: تعريفها، شروط نشأتها، العوامل التى تساعد على نموّها، وكيفية تدهورها وسقوطها، مع حضور كبير لنماذج من الحضارات العالمية، وتركيز خاص على الحضارة الإسلامية لكونها الأقرب إلى ذهن القارئ العربى والأوثق صلة بتاريخه. 

   
ينطلق حسين مؤنس من سؤال التعريف: ماذا نعنى بالحضارة؟ يقدم الكتاب الحضارة باعتبارها ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، ماديًا وروحيًا، عبر الزمن، وليست مجرد تراكم للآلات أو الاكتشافات العلمية. ومن هنا يميّز المؤلف بين ثلاثة مفاهيم كثيرًا ما تختلط فى الخطاب العام: الحضارة، والثقافة، والتقدم، الحضارة عنده بناء شامل يضم المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأنماط العيش، والرؤى الفكرية، والفنون.
أما التقدم فهو حركة إلى الأمام فى بعض الجوانب (كالعلوم والتكنولوجيا)، لكنه لا يكفى وحده لبناء حضارة متوازنة إذا لم يصاحبه ارتقاء أخلاقى واجتماعى.

من ابن خلدون إلى توينبى وسبنجلر

قوّة الكتاب الأساسية أنه يضع القارئ العربى فى قلب الحوار العالمى حول مفهوم الحضارة، يستدعى حسين مؤنس بإسهاب أفكار ابن خلدون عن "العمران" ودورة صعود الدول وسقوطها، ويقارنها بنظريات عدد من كبار مؤرخى الغرب مثل أرنولد توينبى وأوزفالد شبنجلر ممن حاولوا تفسير نشوء الحضارات وأطوارها، فيعرض آراءهم ثم يناقشها ويوافق بعضها أو يخالفه.
عبر هذا الحوار، يكشف مؤنس أن الحضارات لا تعيش فى جزر معزولة، بل تتبادل التأثير والتأثر، وأن الحضارة الإسلامية – فى قراءته – لم تكن مجرد حلقة محلية، بل جزء من السلسلة الكبرى للحضارة الإنسانية.

طبقات الحضارة وحركتها عبر التاريخ

يقسم الكتاب بنية الحضارة إلى مستويات أو "طبقات"، طبقة مادية تشمل الأدوات والتقنيات ووسائل العيش، وطبقة تنظيمية تضم الدولة والنظم والقوانين والمؤسسات، وطبقة فكرية وروحية تتمثل فى الدين والفلسفة والأخلاق والفنون.
يوضح حسين مؤنس أن اختلال أى طبقة يؤثر فى الباقى؛ فالتقدم التقنى مع تدهور فى القيم قد يقود إلى أزمة حضارية، كما أن ازدهار الفنون مع فشل النظام السياسى أو الاقتصادى يعنى أن الحضارة تعيش مفارقة قد تدفعها إلى التراجع.
كما يتوقف عند فكرة «حركة التاريخ والحضارة»، فيشرح كيف تنتقل مراكز الثقل الحضارى من الشرق إلى الغرب وبالعكس، وكيف أن ما نعيشه اليوم من هيمنة نموذج حضارى واحد لا يلغى حقيقة أن التاريخ الإنسانى عرف – ولا يزال يعرف – تعددًا فى التجارب الحضارية.