بائع السمك الذى أسر قلوب السياح فى شارع الخيامية.. عم كحلاوي حمل الشقاء منذ طفولته بأسيوط وكافح بالقاهرة ليؤمن حياة كريمة لبناته الأربع.. وهذه حكايته مع القطط التي وجدت لديه ما لم تجده في أي مكان.. صور
في قلب شارع الخيامية بـ الدرب الأحمر، حيث تمتزج رائحة التاريخ بضجيج الحرف القديمة، يجلس عم كحلاوي، رجل ستيني بسيط تتحدث ملامحه الأصيلة عن سنوات طويلة من الكفاح، فيما ينشر حضوره حوله بهجة خفيفة لا تحتاج إلى كلمات.
كحلاوي بائع السمك
حين تقترب منه، تكتشف عالمًا صغيرًا يتسع بالحب والرضا والرحمة، هناك، أمام كومة خشبية على الرصيف ذاته الذي اتخذه مكانًا للبيع منذ سنوات، يتكوّن مشهده اليومي الذي لا يتغير؛ يبيع سمكًا طازجًا بينما تتجمع حوله القطط التي اعتادت دفء يده في مشهد يعرفه المارة جيدًا، والسياح الذين يجدون في ابتسامته ما يخفّف زحام الطريق.
وما إن يصل إلى مكانه كل صباح، حتى يبدأ طقس يعرفه أهل الحي جيدًا، القطط تتجمع حول قدميه في هدوء، كأن بينها وبينه موعدًا ثابتًا لا يتأخر، ينادي عليها بصوته الهادئ، فتقترب واحدة تلو الأخرى بينما يفتح صندوق السمك ويشرع في التقطيع والتنظيف، يوزّع عليها ما تجود به يده.
عم كحلاوي صديق القطط
ومع مرور الناس من سكان الحي إلى السائحين القادمين من مختلف دول العالم، يتحوّل وجوده إلى جزء أصيل من روح القاهرة الفاطمية، يلتقطون معه الصور، ويبتسمون لابتسامته قبل بضاعته، كأنهم يحتفظون بذكرى من زمن جميل لا يزال يعيش على هذا الرصيف؛ رجل صنع من البساطة جمالًا، ومن يومه العادي حكاية لا تنساها ذاكرة المكان.
قبل أن يصبح كحلاوي عبد الحفيظ محمد بائع السمك المعروف في الخيامية، ويشد رحاله إلى سوق السمك الذي واصل فيه رحلة كفاحه، كان صبيًا صغيرًا يراقب العالم من زوايا أسيوط الريفية، بين شقاء الفلاحة وقسوة الحياة، تعلّم دروس الصبر ومعنى العمل، في مرحلة شكّلت بداخله قوة الاعتماد على النفس، والانتماء للأرض، وتحمل الشدائد، يقول: "أبويا عليه رحمة الله كان راجل على قد حاله، كنا نشتغل عند الناس، مش عيب ولا حرام.. كان عندي ست سنين لما بدأت أتعلم الزراعة والفلاحة.. الشقى كان تقيل وصعب، لكن ده خلاني أحط هدف وأكون متطلع أشوف الناس والدنيا وأعيش وأتجوز وأربي عيالي تربية حلوة.. والحمد لله ربنا وفقني وكرمني".
عم كحلاوي بائع السمك
بين أزقة الدرب الأحمر وأصوات الباعة والزبائن، كان سوق السمك القديم خلف جامع الصالح بمثابة العالم الجديد لصبي صغير متحمس.. أصناف السمك وأنواعه، أبناء الحي التاريخي العتيق، الحركة اليومية للحرفيين، كلها صنعت بداياته وألهمته ليتقن المهنة بشغف: "أنا مقيم في القاهرة بقالي 50 سنة، دخلت تجارة السمك وأنا عندي 13 سنة، كنت أصغر واحد، بس التجارة دي هويتها.. لما لقيت أعمامي وأهلي، حبيت أتعلم أصناف السمك وأنواعه عشان لما أنزل السوق أكون فاهم شغلي كويس".
وعندما حكى عن بداياته، بدت حركته وملامحه وكأنهما يتذكران الجسد الصغير الذي حمل مسؤوليات أكبر من سنه، لكنه رغم ألم البداية كان يحمل حلمًا لم يخونه: "الشقى كان تقيل وصعب والحِمل كان أتقل، وكل همّي وقتها كان إني أبني حياتي ومستقبلي وأشوف الدنيا والناس وأعيش وأتجوز".
كحلاوي بائع السمك
وبين الماضي والحاضر، كان عم كحلاوي يتنقل وكأنه يقدم خلاصة العمر، درسًا لا مجرد قصة، درسًا بناه بالصبر والدعاء والإصرار: "أغلب الناس بيحبوا أولادهم يكونوا أحسن منهم وأنا حطّيت الهدف ده في دماغي.. إني أكون أحسن، وأوصل للي عايزه، وأربي عيالي تربية حلوة، فطلبت من ربنا، والحمد لله اتوفّقت وربنا كرمني".
ورغم ضجيج الشارع وصوت الحياة الذي لا يهدأ، ظل قلب عم كحلاوي مكرّسًا لبيته وبناته. منذ خطواته الأولى في الدنيا، حمل هدفًا لا يفارقه، أن يمنحهن ما لم يُمنَح هو حب، وحنان، واستقرار.
عم كحلاوي بائع السمك في الدرب الأحمر
كان يفكر في كل صباح كيف يضمن لهن حياة كريمة ومستقلة، وكيف يزرع في قلوبهن الأمان الذي تمنى أن يجده في طفولته، ورغم بساطة المعيشة، ظل بيته بالنسبة له قصرًا مليئًا بالدفء: "لمّا جيت أكون أسرة، بنيت بيت زي ما رباني أبويا، ورغم عيشتنا البسيطة، الحب خلّاني أحس إني قاعد في قصر وده رزق كبير من ربنا".
وعند الحديث عن بناته، تغيّر صوته، ولامست كلماته شيئًا أعمق من مجرد فخر: "معايا 5 بنات، واحدة منهم توفّت، ومعايا دلوقتي 4.. جوزت 3 الحمد لله وده فضل كبير من عند ربنا.. اللي بيجوز بنت دلوقتي عارف قد إيه الموضوع صعب.. بس رزقهم على الله.. أنا بحب البنات، والبنات رزقها حلو.. ربيتهم على الحب، ودايمًا نفسي أشوفهم مرتاحين ومبسوطين.. والحمد لله ربنا كرمنا وعيشنا في أحسن مكان في مصر حي الأسمرات وبشكر الرئيس".
عم كحلاوي أثناء تقطيعه السمك وتنظيفه
ثم توقف قليلًا قبل أن يروي الجملة التي غيّرت فهمه للحياة، جملة علقت بعقله منذ صغره وتحوّلت إلى مبدأ: "في راجل قالي كلمة… قال يا بني التجارة دي كلمة من أربع حروف.. التاء تكون تقي، والألف تكون أمين، والراء تكون رؤوف، والجيم تكون جرئ، ومن يومها فهمت يعني إيه تجارة".
ومع شروق الشمس، يبدأ يومه المعتاد، يصل إلى شارع الخيامية، يجهّز السمك، ويستقبل الزبائن من كل مكان، حوله، تتجمع القطط كأنها عائلة صغيرة تحفظ موعدها معه، بينما يلتقط المارة والسياح صورًا لابتسامته العفوية: "حياتي منظمة، بقوم الساعة 7 الصبح أتمشى وأجي هنا على ميعادي 9 أو 10 وابدأ شغل والساعة 5 أخلص، واللي ربنا ادهولي أقول الحمدلله عليه، عايشين في نعمة وراضيين والحمدلله سترت بناتي من بيع السمك وزبايني من كل دول العالم".
لم تكن القطط التي تلتف حوله مجرد عابرات طريق تبحث عن لقمة، بل جزء ثابت من حياته اليومية، كأن بينها وبينه عهد مودة لا يحتاج إلى كلام، فما إن يصل إلى مكانه حتى تبدأ في الظهور واحدة تلو الأخرى، وكأنها تحفظ صوته وخطواته، يناديها بنبرة هادئة دافئة، فتقترب مطمئنة، بينما يفتح صندوق السمك ويبدأ في التقطيع والتنظيف بعناية أشبه بعناية أب بأبنائه، كان يعرف كل واحدة منهن تلك الخجولة التي تراقب من بعيد، وتلك الجريئة التي تتقدم أولًا، وأخرى لا تستسلم بسهولة بعناد لطيف اعتاد عليه.
بائع السمك في شارع الخيامية
ثم أشار بعينه نحو واحدة تقف على مسافة منه، كأنه يعرفنّا بها دون أن ينطق اسمها، وكأن بينهما لغة خاصة، إشارات لا تُرى، ورسائل لا تُسمع إلا بقلب يعرف الرحمة: "هحكي لكم علاقتي بالقطط، أنا مش بأكلهم وخلاص، دول زي أولادي، عارف إمتى يجوعوا، وعارف لعبهم وهزارهم، وفاهم غيرتهم من بعض لما ألاعب واحدة وأسيب التانية، أصل القطط فصيلتين.. فيه النمر وده شرس ويهاجم وقت الأكل وفيه القطة الملاك الهادية، والإحساس ده نعمة كبيرة من ربنا.. القطة مخلوق وليها حق وأهم حاجة الرفق بيه".
الحياة لم تكن سهلة، لكنها مليئة بالرضا، وكل تعب كان يقابله بفرحة بسيطة صادقة.. الزبائن، محليون وسياح، يمرون، يبتسمون، يلتقطون الصور، ويغادرون وهم يحملون جزءًا من دفء الرجل ورضاه: "أحلى حاجة الرزق الحلال، لما تسعى ربنا هيكرمك ويرزقك، عُمر الحياة ما تكون وردية، لازم تقابلنا مصاعب ومتاعب، بس أهم حاجة تنظم حياتك، وتقرب من ربنا، وتعيش برضا وحب".
عم كحلاوي
Trending Plus