كأنه اعتذار متأخر عن الغباء.. موسم انكشاف الإخوان عالميا وإعادة الاعتبار للدولة الوطنية
ثلاث ضربات توالت على رأس الإخوان فى أسبوع واحد تقريبًا، وكلها من الولايات المتحدة. البداية من قرار حاكم ولاية تكساس بتصنيفها كيانًا إرهابيا بجانب مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية «كير»، إلى خطوة شبيهة فى فلوريدا، وبينهما توقيع الرئيس دونالد ترامب أمرا تنفيذيا يوجه وزارتى الخارجية والخزانة بدراسة اتخاذ إجراء بشأن فروع الجماعة فى مصر والأردن ولبنان، وما يزال الملف مفتوحا فى أروقة الكونجرس، فى ضوء مشروعات قوانين ومداولات ممتدة تحت ذات السقف.
لطالما تطلع التنظيم إلى مُغازلة واشنطن، ونجح فى الوجود على أرضها أوّلا، قبل أن يفتح قناة اتصال غير مباشرة مع مؤسساتها الرسمية بوساطة أستاذ علم الاجتماع الراحل سعد الدين إبراهيم، بدءا من إدارة كلينتون فى أواخر تسعينيات القرن الماضى، ليمتد الخط من الديمقراطيين إلى الجمهوريين مع جورج بوش الابن، ويتعمّق وتزداد قوّته فى سنوات أوباما التى شهدت أقصى صعود لهم، وأسوأ انكسار يختبرونه منذ التأسيس.
تلاعب بها الغرب منذ البداية، أو استتبعها قاصدًا، وكانت من ناحيتها مُؤهّلة للاستزلام ومُرحبة به. كأن الاحتلال البريطانى أراد من الاحتضان والرعاية أن يشقّ بها الصف الوطنى الناشئ، وأن يُذوّب الهويّة البازغة حديثا تحت سقف المصرية ومساعى الاستقلال، فى انتماءات أوّلية منقطعة عن العصر، رجعيّة فى أفكارها، وفتنويّة فى ممارساتها، وغير مُرحّبة بالحداثة فى تجلياتها الاجتماعية والدولتيّة.
وُلِدَت الفكرة على جرف تتداعى منه الجغرافيا والتقاليد الموروثة بعناوينها الكبرى، الممتلئة باليقين والعاطفة بما يكفى لتعمية العيون وتكميم العقول والأفكار. انتهت الحرب العالمية الأولى بانهيار الدولة العثمانية من داخلها، بالتزامن مع هزائمها الخارجية الثقيلة. اتفاقية سايكس بيكو لتقاسم الشام بين لندن وباريس، ثم وعد بلفور وفرض الانتداب البريطانى على فلسطين. إعلان فبراير 1922 باستقلال مصر جزئيا، وبعد سنتين فحسب يكتب أتاتورك شهادة وفاة الامبراطورية العائلية المحسوبة زورا على الخلافة الإسلامية. بدا أن الصمغ الذى يُثبّت شظايا المنطقة إلى جوار بعضها آخذ فى الذوبان، وإذا كانت تعرضت من قبل لغزوات الغرب تحت راية الحروب الصليبية وأفلتت منها؛ فضياع الحاضر ربما لا يكون من فعل الغزاة، بقدر ما يُحمَل على غياب الدين أو تراجع سطوته فى بلاط الحُكم.
هكذا تصوّر المؤسس الأول، أو انتحل الذريعة لإقناع زُمرة العمال والجُهّال الذين بنى دعائم مملكته الأصولية على أكتافهم العريضة، وفوق أدمغتهم الخاوية. ما يجعل تسبيب النشأة وثيق الصلة بالسياسة وأحوالها، بغض النظر عن أية دعايات أخلاقية أو مزاعم دعوية. وانطلاقا من تحديد الأزمة فى غياب نموذج الحُكم الموروث، وأن تلك العصبة وحدها جديرة باستعادته وتمكينه من جديد؛ فإن كل ما يمكن أن يتورطوا فيه على الطريق مقبول فى نظر الشرع والمصلحة، وكل كارثة يتسببون فيها ترخص أمام الامتحان الأكبر، ولا حديث قبل أن يُتم الله نوره على بيئة الإسلام بعد ظلامها، ويُوسّد الأمر لأهله دون العالمين. ومعلوم من الأثر أن «كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»؛ ولو اتسعت مسموحات الهوى إلى التقية والمعاريض والخيانة، وإلى هَدر الأصول الشرعية تحت أحذية المتنطعين بالشرائع.
يصح لديهم أن يعملوا مع الإنجليز ويتلقوا منهم المنافع والرّشى، وأن يُمالئوا القصر نكاية فى القوى الوطنية، ويتحالفوا مع ضباط يوليو ثم ينقلبون عليهم. أن ينتقلوا إلى الغرب فرارا بدينهم كما يزعمون، ومن داخل منظومة الحرية يُعيدون تكييف أهدافهم المضادة للمدنية وحقوق البشر فى الاعتقاد والاختيار. أن يعملوا مع الأمريكيين والأوروبيين، ويناموا فى أحضان الجمهورية الإسلامية وملاليها، ويفتنوا الفلسطينيين فى قضيتهم باسم الدين والحماس، ويتظاهروا ضد مصر أمام سفاراتها بالخارج، وحتى فى قلب تل أبيب.
المشكاة واحدة، وما اخترعها البنا من عدم. لقد مدّ يده فى باطن التاريخ، واستعار ما يُشبه روحه ويُلاقى غاياته المُضمرة. ويطيب للبعض تشبيهه بحسن الصباح، وتوقيع صفة الحشاشين على جماعته؛ ولا تستشعر بالمقارنة الموضوعية فارقًا يُذكر بين الصنفين. ومنه إلى سيد قطب؛ وقد استعار أفكار الندوى والمودودى من أطراف الهند، وأعارها لاحقا إلى الشيعة قبل ثورتهم المُظفّرة فى إيران، وقد كان المُرشد الحالى على خامنئى مُترجم أفكار وكتابات رائد الحاكمية وتجهيل المجتمع وتكفيره عن بكرة أبيه، من العربية إلى الفارسية.
اختلفت البيئات والثقافات واللغات والمذاهب؛ ولم تختلف البذرة المُنبِتة للتطرف على تنوّع البلاد والعباد. فروق ربما لم نكن نلحظها هُنا قبل عقود قليلة، فكان من الطبيعى أن يتعثّر فيها الغربيون أنفسهم، ويختلفوا عليها، ويتخطّفوا ما ظنّوه فيها من وردٍ، مخلوطا بما تنطوى عليه من حَسَك؛ قبل أن تتبين لهم الحقائق بالدُربة والممارسة، وإن بقيت المصالح حاكمةً على الاعتبار والقرار.
يتردّد فى فرنسا كلام كثير عن مخاطر الأصولية الإسلامية، وتتجاوب معها عواصم أُخرى، وحتى المعقل الأبرز للإخوان فى المملكة المتحدة لا يبدو بعيدًا من الاشتباك مع السؤال الثقيل. يعود جانب من الأمر إلى تجذُّر الاستعلاء وسردية التفوق لدى «الرجل الأبيض»، وإلى نزعات يمينية مُتطرفة من عيّنة نظرية «الاستبدال الكبير»؛ لكن جانبًا لا يُستهان به يتّصل فعلاً بما يُمثّله الإخوان وأشباههم من تهديد حقيقى؛ ليس لأنهم سيصبغون الفضاء المدينى المُتحضر بألوانهم البدائية المُتخلفة؛ إنما لأنهم يتستّرون وراء جدار الحماية ليواصلوا غاراتهم على المنابع الشرقية؛ فيُضعفونها ويتقوّون من ضعفها، فتصير الحواضن الأصيلة لغمًا يتهدّده الانفجار فى كل لحظة، والعالم من طبيعته أنه مُتّصل على اتّساع أرجائه بخطّ من البارود.
ذاك الاتصال لم يكن مرئيًا لدى الفاعلين الخارجيين وهم يلعبون فى إعدادات المنطقة، ويُغلّبون كفة فريق على فريق. وغالب الظن أنهم اعتبروا أن خلافات الأصوليين البينية تتقدّم على خلافاتهم مع الآخر، وقد يكون الطرح صحيحًا بمقدار، وحسب الظروف وتشابك الحسابات؛ إنما لا تمنع الصحّة من الاسترسال والتلاقح ووصل المُنقطع بينها أحيانًا؛ لأن العُقدة الناظمة لها جميعًا واحدة، ولأن الدودة فى أصل الشجرة.
لم يقفز الإخوان على الحدود بدفع الانضغاط داخلها فحسب. كان مؤسس الإخوان ساعيًا إلى الهدف منذ البداية، واستعار من الإسلام عالميته ليُسمّيها «أستاذية العالم»، ويختزلها فى التنظيم وتسييده على المُختلفين عنه والمناوئين له. خرج مُبكّرا إلى اليمن والشام والحجاز وغيرها، ولو امتدّ به العُمر لانزلق فيما تردّى إليه رجاله وتابعوه. لكن الانطلاقة الكبيرة جرت عقب الاصدام مع دولة يوليو؛ فانخدع فيه البعض باعتبارها ناشئًا عن صراعات طارئة، لا عن مبادئ وأدبيات وأولويات مُستقرة وحاكمة.
الدفعة الأكبر أنجزها سعيد رمضان، صهر البنا ووالد أحفاده، عندما غادر إلى جنيف فى سويسرا قبل نحو ثلاثة أرباع القرن من الآن. لعب الرجل دورا فى تخليق الركائز الأولى لحضور التنظيم فى المجال الأوروبى، وتفرّعت منه القنوات والأدوار، إلى أن صارت لهم معاقل كُبرى وثروات طائلة، واختراقات بلا حدود فى أروقة الاقتصاد والإدارة والأكاديميا والاجتماع، ومثّلوا حاضنة من نسيج المُهاجرين واللاجئين؛ تُعوّضهم عن الفقد، وتُوفر لهم الملاذ واللغة المُشتركة كى لا يشعروا بالضياع فى عالمهم الجديد.
أنتجت المُعايشةُ ضلالات بدلاً من أن تُنتج معرفة حقيقية. كانت الدول ترى الشرق من بعيدٍ، وتحكُم على الأصوليين لديها بالتزامهم الشكلانى بالقواعد، واجتهادهم المصنوع فى إبداء الاستحسان والامتزاج مع المنظومة التى وفدوا عليها، وهذا مما شجّع على إفساح نطاق عريض لهم أن يتحرّكوا، ويُراكموا الحضور والمُكتسبات، ويُوجّهوا المواقف السياسية لعواصم الجديدة تجاه العواصم القديمة.
كان 11 سبتمبر فالقًا عظيمًا بنية التصورات الاستشراقية عن نظام التطرف فى الشرق، وفارقًا بين مرحلتين من التفكير، إحداهما أفضت إلى اكتشافات مُتلاحقة غيّرت النظرة وقادت إلى تغيير آليات العمل. اعتبر الجمهوريون بعد حادثة البُرجين أن الخطر يلفّ عمامة سُنيّة على رأسه؛ فاقتربت من عمائم الشيعة السوداء وبادلتها الأُلفة والمواءمات؛ حتى آل العراق إلى خزانة إيران، بعدما كان لُقمة فى زورها، وقلّبها على نار حربهما الطويلة، وأجبر قائد ثورتها الخمينى على احتساء كأس السمّ.
أوباما عاد خطوة إلى الخلف مع السنّة، ولم ينعكس انقلابه على العلاقة بالشيعة؛ فجمع بين أخطر ما يُمكن الجمع بينهما: أن يتوافق مع الإخوان والذين يدورون فى فلكهم، وأن يُبقى التعاقدات الضمنية والظاهرة مع طهران على حالها؛ فكان ما كان من ثنائية جهنمية تلاقت فيها المُتناقضات كلها: الميليشيات الولائية للحرس الثورى فى بلاد الرافدين إلى جوار القاعدة وبذور داعش، وحماس وفرع التنظيم فى سوريا مع الزينبيين والفاطميين وفيلق القدس فى دمشق، وتعانق حزب الله مع الجماعة الإسلامية «إخوان لبنان»، وصولاً إلى انتقال حماس جزئيًّا من المحور العثمانى إلى منافسه الفارسى، بعدما كان خلافها مع حركة الجهاد، المُنشقّة عنها أصلاً، منشأه التنازع على مفهوم المُمانَعة بين التسنُّن والتشيٌّع.
ولن يفهم الناظرون من الخارج، كيف أن الإخوان يعملون مع إيران فى غزة ولبنان وغيرهما، ويُعادونها فى سوريا؛ أقلّه منذ افتتاح الحرب الأهلية هناك واتخاذهم موقفًا خصاميًّا من بشار ونظامه. كيف يرتمون بكامل الجسد فى بِركة العثمانية الجديدة، وتتحرك أطرافهم الأربعة على إيقاع الشيعية المُسلّحة، وإن سألت الفُرس سيقولون إنها أُخوّة الدين على طريق القدس، وإن سألت العثمانيين سينزعون إلى أن استقطاب ما يُمكن منهم، أفضل من ذوبانهم جميعًا فى بوتقة الأطماع الصفوية.
غالبية الإقليم، دولاً ومُجتمعات، سُنّة يتعرّضون لأسوأ شرور الميليشيات السنيّة، مخلوطًا بأردأ الدعايات والممارسات الاحتيالية من نظيرتها الشيعية. وكلاهما يقبل فى أبناء المذهب يأتيه الآخر المُخالف؛ إذ لا مصلحة مثلا لشيعة الكويت والبحرين والسعودية فى سلوكيات إيران والإخوان، ولا للمجتمعات فى عمومها أيضًا. لكنه التقاء الضباع على فريسة واحدة؛ قبل أن يُفرّق بينها الجوع واستحلال الجيف داخل القطيع.
رفض وزير الخارجية اللبنانى أمس الدعوة التى وجّهها إليه نظيره الإيرانى لزيارة طهران، وفضّل الذهاب إلى حوار فى دولة ثالثة، ولا يُستحسَن بالتبعية أن تكون من رُعاة الإخوان، الذين يصبّون من طرف خفى فى نهر الأجندة الشيعية؛ ولو على غير هوى الفكرة العثمانية التى تتقدّم فى مكان وتنحسر فى سواه.
واتجاه الغرب إلى تصنيف الإخوان كيانًا إرهابيًّا؛ يختلف اليوم عن أية محاولة سابقة، لا سيما أنه يأتى فى سياق الهزائم المتوالية للميليشيات الأصولية على جبهات صراعها مع الصهيونية، وتراجع الشيعية المُسلحة من رُتبة القطب الإقليمى، إلى موقع يبحث فيه الرأس عن النجاة؛ ولو اضطُرّ للتضحية بالأذرع والوكلاء.
توالى الانكسارات وتواليها لا يصب فى صالح الأعداء، كما يُروّج الأصوليون ويحاولون إقناع بيئاتهم والمُغيّبين من خارجها. سيقول الإخوان إن الموقف الحاد منهم يعود إلى دعمهم للمقاومة فى فلسطين، فيما الطوفان كان حراكًا تنظيميًّا يتخطّى واقع القضية وأولوياتها، وأورثها أعباء لن تتحلل منها قبل عقود. كل تراجع للمُتطرفين يصب فى نهر الاعتدال، وكل انحسار للميليشيات يُضيف إلى رصيد الدولة الوطنية، وهى الفكرة التى لم يكتمل تفعيلها طوال القرن الماضى على وجه سليم، وما تزال الأمل الباقى بعدما أطبق اليأس على كل البدائل فى تجاربها المتكررة.
لا تُطارَد الإخوان لأنها تدعم حماس؛ ذلك أن الحماسيّين بذاتهم لا يدعمون أنفسهم. لقد قدّموا مصالح الآخرين على الحركة، وعلى فلسطين وشواغل ناسها، وكل المُحاولات الجارية لإنقاذ غزة تبدأ وتنتهى عند تحييد الخطابات الفصائلية القديمة، بما فيها من تديين وتلوين واستتباع ومحاور وأحلاف موجّهة. التصنيف تصويب لوضع خاطئ، وفاتحة لأن تتحرّر المُجتمعات من ثِقَل المُتاجرين بالعقائد لأهداف خاصة، ومن سيرة طويلة انطوت على كل الموبقات، وتجلّت فيها كل صور الخيانة والاستزلام واسترخاص الأوطان، حتى صار طوق النجاة إلى نتنياهو يُلقيه السنوار، وغسل سُمعة إسرائيل تتكفّل به تظاهرات الإخوان أمام السفارات وتحت علم الاحتلال فى تل أبيب.
Trending Plus