قاهرة البدايات.. كيف رآها نجيب محفوظ فى الثلاثينيات والأربعينيات؟
رأى نجيب محفوظ القاهرة كلوحة فسيفساء جميلة، شجرة وارفة متعددة الفروع، وهو وإن رأى فيها التنوع والكوزموبوليتانية رأى فيها أيضا حياة الفقراء والأغنياء والفتوات فى الحارة، إنه عالم رجل تنقل بين العجوزة والعباسية والجمالية، وهو عالم غنى عن الوصف فلو أتيح لأى إنسان التنقل بين الأحياء الثلاثة لباتت حياته غنية وقريحته ثرية فما بالنا بأديب كاتب مؤلف فيلسوف كنجيب محفوظ؟
الأحياء الثلاثة التى نشأ فيها نجيب محفوظ تحمل فى دواخلها كل صفات وسمات القاهرة، الجمالية حى شعبى عريق من مصر القديمة رأى فيها الفتوة يقوم مقامه ويفعل فعله، أما العباسية فهو حى حديث أكثر من الجمالية لكنه مرادف أيضا لخليط الحياة الشعبية والحياة الجديدة التى بدأ يحياها المصريون فى القرن العشرين وبعد ثورة 1919 تحديدا، أما العجوزة فهو الحى الذى اقترب منه النيل وعالم العوامات والأثرياء الذين يلقون على الراقصات المال والسياسة التى تقترب من مفردات الثراء والنفوذ بل والفساد، وقد ظهر ذلك فى "ثرثرة فوق النيل" مثلا.
قاهرة نجيب محفوظ
يقول ماهر البطوطى، فى كتاب بين الفن والأدب تحت عنوان قاهرة نجيب محفوظ: معظم روايات وقصص الأستاذ يدور فى القاهرة، وقليلها فى الإسكندرية، ونادرًا ما يَرِد الريف والقرية فى أعماله، ولا عجب؛ فهو قد عاش حياته فى العاصمة، ما بين أحيائها القديمة والجديدة، عشِقَها، وطاف بشوارعها وحواريها وأزقَّتها، وتنقَّل بين مقاهيها، وجال فى منطقة وسط البلد كما نسمِّيها نحن القاهريون؛ فانعكست كلُّ هذه الأماكن فى رواياته وقصصه وخاصَّة الأحياء القديمة، وأول ما يلفت النظر إلى استحواذ القاهرة القديمة قاهرة المُعز على قصص وروايات الأستاذ، عناوين الروايات التى أخرجها فى فترته الواقعية الصِّرفة، مثل: خان الخليلى، زقاق المدق، بين القصرين، قصر الشوق، والسكرية.
وقاهرة نجيب محفوظ تشمل أساسًا مناطق الجمالية والغورية والحمزاوى وباب الخلق والدرب الأحمر والحلمية والموسكى والأزبكية وباب الشعرية والبغَّالة والحسينية والسكاكينى والوايلى، وعَصَبُ هذه المنطقة هو شارع المعزِّ لدين الله، الذى يخترق معظمها، والذى تُعرف أجزاء منه بأسمائها القديمة، ومنها بين القصرين وقصر الشوق؛ واسم بين القصرين يرجع إلى العصور الماضية، حين كان المكان بين قصرين كبيرين أحدهما غربى والآخر شرقى، وتضم المنطقة مجموعات أثرية متكاملة.
وهذه المنطقة عامرة بالمساجد الأثرية: جامع المؤيَّد، جامع تغرى بردى، جامع الغورى، جامع السلحدار، جامع أبى الدهب، الجامع الأزرق، جامع السلطان برقوق، جامع الفكهانى، الجامع الأقمر، ثم جامع الحاكم بأمر الله الذى كان قد طاله الإهمال إلى أن قامت طائفة البهرة الهندية بتجديده وتعميره.
القاهرة وثورة 1919
رأى نجيب ثورة 1919 رأى العين طفلا وتركت بصمة عميقة فى وجدان نجيب محفوظ، خاصة فى الثلاثية "بين القصرين، قصر الشوق، السكرية"، التى وثقت المجتمع من خلال "السيد أحمد عبدالجواد" وعائلته فى القاهرة، وقد رأى فى أيام البدايات الوحدة الوطنية المتجسدة فى اتحاد الهلال مع الصليب.
القاهرة الجديدة
لماذا سمى نجيب محفوظ روايته القاهرة الجديدة؟ لقد رأى فى القاهرة مسرحا لقيم جديدة ومعانٍ لم يرها من قبل، ولم يرصدها، ذاعت وانتشرت عقب الحرب العالمية الأولى، وذلك بعيدا عن المجتمع التقليدى المحافظ وهو ما سجله نجيب محفوظ عن ملامح مجتمع ثلاثينيات مصر عبر شخصية محجوب عبدالدايم، الموظف الذى يضحى بكل شىء فى سبيل الثراء والمنصب، حتى يتزوج عشيقة الباشا طمعًا فى النفوذ، ما يجعله مرادفا لانفصال الإنسان عن المبادئ تحت وطأة الفقر وبجانبه، يمثل مأمون رضوان التيار الدينى المحافظ، بينما يجسد على طه الفكر الاشتراكى المثالى، وتأتى إحسان شحاتة لتجسد مأساة المرأة الضائعة بين الحب والخضوع.
Trending Plus