ميرامار فى ثوب الكوميكس.. نجيب محفوظ صالح لكل زمان ومكان
انتهيت من قراءة النسخة الكوميكس من رواية "ميرامار" للأديب الخالد نجيب محفوظ، وهي تجربة لافتة صدرت ضمن طبعة مشتركة بين دار "ديوان" ودار/مركز "المحروسة" للنشر، كتب السيناريو محمد سرساوي بالاشتراك مع محمد إسماعيل أمين، بينما تولت الرسوم ورشة تضم أربعة رسامين هم ميجو، وسلمى زكريا، وجمال قبطان، وحسين محمد، ومنذ الصفحات الأولى، يدرك القارئ أنه أمام محاولة واعية لإعادة تقديم نص محفوظي راسخ، لا عبر التلخيص أو التبسيط، بل من خلال إعادة إنتاجه في وسيط بصري مختلف.
بالطبع، ليست إعادة تقديم نجيب محفوظ مهمة سهلة، فالرجل الذي أسس جزءًا كبيرًا من وعينا السردي الحديث، لم يكن يكتب الحكاية بوصفها حدثًا فقط، بل كان ينحت طبقات نفسية واجتماعية وسياسية متداخلة، تتطلب قارئًا صبورًا ومتيقظًا، ومع ذلك، تأتي نسخة "ميرامار" الكوميكس بوصفها محاولة ذكية لاختبار إمكانية عبور هذا العالم إلى زمن آخر، وإلى قراء جدد.
في هذه النسخة، لا تختزل الرواية ولا تُعامل باعتبارها مادة تعليمية أو "ملخصًا مصورًا"، على العكس، يُعاد بناؤها وفق منطق وسيط مختلف، له لغته وأدواته وإيقاعه الخاص، الكوميكس هنا لا ينافس الرواية الأصلية، ولا يدعي أنه بديل عنها، بل يعمل بوصفه مدخلًا أوليًا، أو بوابة ذكية تغري القارئ بالدخول إلى عالم "ميرامار"، بدل أن تفرض عليه هيبة النص الكلاسيكي منذ اللحظة الأولى.
أحد أهم مكاسب هذه التجربة هو رشاقة السيناريو، فالرواية الأصلية تقوم على تعدد الأصوات، وعلى إعادة سرد الحدث الواحد من زوايا مختلفة، وهو بناء سردي قد يبدو معقدًا على قارئ غير معتاد على تقنيات محفوظ، السيناريو في نسخة الكوميكس نجح في التقاط هذا الجوهر، مع قدر محسوب من الاقتصاد، دون أن يُفرغ الفكرة من معناها، فنحن نسمع الأصوات المختلفة، ونشعر بتباين الرؤى وتناقضها، لكن عبر تدفق بصري سريع، لا يربك القارئ ولا يثقله، بل يحفزه على المتابعة.
أما الرسومات، فهي لا تسعى إلى الزخرفة أو الإبهار الفارغ، بل تأتي متناسبة مع روح النص، الشخصيات ليست كاريكاتيرية، والأجواء لا تميل إلى المبالغة، بل تحافظ على مسافة واقعية تتيح للقارئ أن يرى الإسكندرية، وبنسيون "ميرامار"، والوجوه القلقة، بوصفها امتدادًا طبيعيًا لعالم محفوظ، الخطوط هادئة في معظمها، والانتقالات البصرية تخدم المعنى والسرد، لا تستعرض المهارة على حساب الفكرة.
الأهم من ذلك أن الكوميكس ينجح في ترجمة المناخ الاجتماعي والسياسي للرواية إلى صور، ما بعد ثورة يوليو، وارتباك الطبقات، وصعود خطاب وسقوط آخر، وأحلام كبيرة تتآكل في التفاصيل الصغيرة، الصورة هنا لا تشرح الفكرة مباشرة، بل تلمح إليها "في نظرة، أو زاوية كادر، أو صمت بين مشهدين"، وهي قدرة نادرة حين يُحسن استخدامها، وتؤكد وعي القائمين على العمل بطبيعة النص الأصلي.
وتحسب لهذه النسخة أيضًا أنها لا تتعامل مع محفوظ بوصفه "أيقونة مقدسة"، بل باعتباره كاتبًا حيًا، قابلًا لإعادة القراءة وإعادة الاكتشاف، وهذا هو جوهر أي مشروع ثقافي حقيقي، أن نحافظ على النص لا بتجميده، بل بفتح مسارات جديدة للوصول إليه، فالقارئ الذي يتعرف إلى "ميرامار" عبر الكوميكس قد يعود لاحقًا إلى الرواية الأصلية، لا بدافع الواجب، بل بدافع الفضول.
في زمن تتغير فيه عادات القراءة، وتتزاحم فيه الوسائط، تبدو تجربة "ميرامار" الكوميكس نموذجًا مهمًا لكيف يمكن للأدب الكلاسيكي أن يستعيد حضوره دون أن يفقد كرامته، هي ليست مغامرة شكلية، بل اقتراح ثقافي جاد، يقول إن نجيب محفوظ ما زال قادرًا على الحوار ، وأنه صالح لكل زمان ومكان.
Trending Plus