وداد طه تكتب: الست.. حين يغامر مروان حامد بإعادة تشكيل أسطورة لا تموت

يعيد مروان حامد فتح دفتر الذاكرة العربية بفيلم "الست"، ويقودنا إلى منطقة حساسة لا يقوى كثيرون على الاقتراب منها: سيرة أم كلثوم. يختار المخرج أن يواجه الإرث الثقيل لهذه الشخصية، لا بالرهبة، بل بالبحث الهادئ فى جوهر الأسطورة. ويثبت منذ اللقطة الأولى أن المغامرة ليست فى إعادة تقديم "كوكب الشرق"، بل فى محاولة فهم ما وراء وهجها، وما وراء الصورة التى صنعتها لنفسها وصنعتها لها أمة بأكملها.

يقدم حامد عملا لا يكتفى بتعقب محطات شهيرة نعرفها جميعا، بل يحاول أن يرى الإنسان قبل الصوت، والمشاعر قبل الهالة، والجرأة قبل الصورة الفنية المكتملة. ويبدو واضحا أن الفيلم صيغ بعين عاشقة واحترام كبير، لكن أيضا بنفس نقدى يعيد ترتيب العلاقة بين الرمز والجمهور، بين الذاكرة والخيال، وبين الحقيقة والتمثيل.

خاضت منى زكى تحديا مضاعفا فى الفيلم، وكانت تدرك جيدا أنها تدخل منطقة محفوفة بكل أنواع المقارنة، رغم أن العمل يتجاوز فكرة "التشابه" الشكلي، ويذهب إلى ما هو أعمق: كيف نفهم امرأة اختارت أن تحيا فى الضوء دون أن تترك الضوء يلتهم حياتها؟ وكيف نحكى عن امرأة بنت مجدها من الداخل، من الانضباط، من الصبر، ومن قدرة نادرة على تحويل الألم إلى فن؟
تلتقط منى زكى هذا المستوى بذكاء، تتردد، تخاف، ثم تتقدم خطوة خطوة، تماما كما روى مروان حامد، وتبدو العلاقة بينهما فى الفيلم انعكاسا للعلاقة بين المخرج وشخصيته المركزية، علاقة قائمة على الصبر، والانتباه لأدق التفاصيل، والرغبة فى أن يولد العمل فى وقته، بلا استعجال ولا ادعاء.
تأتى قوة الفيلم من اختياره الابتعاد عن الخطاب الاحتفائى الذى اعتدناه فى سير الأيقونات، لا يقدم أم كلثوم كتمثال، ولا كمشهد تاريخى محفوظ، بل كإنسانة تتنقل بين قسوة الحياة، ووسط ذكورى لا يعترف بخوض الفتاة غمار الفن، وبين رغبة لا تهدأ فى أن تتجاوز حدود زمانها ومكانها، ومن هنا يصبح "الست" فيلما عن المرأة العربية أيضا، لا عن أم كلثوم وحدها، عن القدرة على بناء الذات فى عالم يعيد تعريف النجاح بمعاييره الضيقة.

تمنح الميزانية الضخمة للعمل التى حددتها الشركة المنتجة فى 8 ملايين دولار، حجمه البصري، لكن القيمة الحقيقية لا تأتى من الإنتاج بل من الفكرة، كيف نعيد قراءة القرن العشرين من خلال امرأة صنعت قرنا كاملا من الوجدان العربي؟ وكيف نختبر اليوم معنى الصوت الذى بقى حيا رغم تغير كل شيء حولنا؟
يوقظ الفيلم أسئلة قديمة لا تزال معلقة، هل يمكن للسينما أن تعيد بناء الأسطورة دون أن تقع فى فخ التقديس؟ وهل يملك المخرج حقا أن يعيد تشكيل شخصية بحجم أم كلثوم، أم أن هذه المهمة محكومة دائما بالجدل؟ لكن الجواب، كما يبدو، يأتى من الفيلم نفسه، الأسطورة تعيش لأنها قابلة للقراءة وإعادة القراءة، ولأنها لا تروى مرة واحدة.
يخرج المشاهد من "الست"، بعد أن قضى 160 دقيقة، وهو يشعر بأن مروان حامد لم يقدم فيلما عن أم كلثوم، بل عن أثرها، عن تلك القوة الغامضة التى تجعل صوتا واحدا يعبر الزمن ويتجاوز الجغرافيا. عن امرأة لم تكن تبحث عن الخلود، لكنها حصلت عليه لأنها وعت تماما معنى أن تعيش للفن.
وفى النهاية، يذكرنا الفيلم بأن الأساطير لا تصنع فى لحظة، وأن إعادة سردها ليست عملا توثيقيا فقط، بل موقفا فنيا وفكريا. ومروان حامد، فى "الست"، يتخذ هذا الموقف بشجاعة، فيقدم عملا يليق بامرأة ظلت، وستظل، "الست" التى لا يزاحمها أحد فى الذاكرة العربية.