المسلمون فى أوروبا والولايات المتحدة.. من العزلة إلى التأثير
أحدثت حرب غزة تغييرًا جذريًا فى نظرتنا إلى دور ومكانة المسلمين فى أوروبا والولايات المتحدة وكندا، فبعد أن كانوا محصورين فى دائرة ضيقة تُستدعى أسماؤهم فيها غالبًا عند حدوث أعمال عنف، أصبحوا فاعلين ومؤثرين فى هذه المجتمعات، خاصة المهاجرين من الجيل الثالث الذين وُلدوا ونشأوا فى هذه الدول.
ويُقدر عدد المسلمين فى أوروبا والولايات المتحدة وكندا بأكثر من 30 مليون مسلم إذا استُبعدت تركيا وروسيا، وقد أصبح اسم محمد واحدًا من أكثر الأسماء انتشارًا فى أوروبا، ومع ذلك تختلف أوضاع المسلمين من بلدٍ لآخر، ففى بريطانيا يتمتع المسلمون بحرية كبيرة فى ممارسة شعائرهم، بينما يُعد وضع المسلمين فى كندا أكثر مثالية، فى حين تحظر فرنسا الرموز الدينية فى المؤسسات العامة، بناءً على ذلك، فإن جمع حالة المسلمين فى الغرب فى إطار واحد أمر غير دقيق، خاصة أن أوضاعهم داخل البلد الواحد شهدت تغيرات من مرحلة إلى أخرى.
فى الولايات المتحدة الأمريكية اندمج المسلمون بشكل واسع داخل المجتمع الأمريكي، خصوصًا أن أغلبهم من الطبقة المتوسطة، غير أن أحداث 11 سبتمبر وما تبعها من تدخلات عسكرية أمريكية فى الدول العربية والإسلامية خلقت حالة من التوتر وردود الفعل داخل المجتمع، بالتوازى مع صعود موجات عنصرية بين بعض البيض، ما هدد حالة الانسجام الاجتماعي، وقد ظهر ذلك فى حالات التحرش بتلاميذ المدارس المسلمين، إذ تشير دراسة أجريت عام 2017 إلى أن 42% من تلاميذ المدارس المسلمين تعرّضوا للتمييز بسبب ديانتهم.
تزامن هذا مع صعود ظاهرة الإسلاموفوبيا، ويمكن تعريفها بأنها الخوف والرهبة من الإسلام والكراهية لمعتنقيه، وهى صورة تعمل الأحزاب اليمينية المتطرفة وبعض وسائل الإعلام الغربية على ترسيخها بهدف إثارة الخوف من المسلمين وشيطنة وجودهم، والزعم بأن تزايدهم يمثل تهديدًا، بما يبرر الإجراءات العدائية ضدهم.
ويقتضى ذلك تعريفًا دقيقًا لمفهوم الأقلية الدينية، وهى كل جماعة يشكل الدين هويتها الأساسية، ويكون معتقدها مختلفًا عن الدين السائد فى المجتمع.
ورغم صعود الكراهية لدى بعض الجماعات العنصرية، فإن غالبية واسعة داخل الغرب تُقِر بحقوق المسلمين كأقلية فى ممارسة شعائرهم شرط الاندماج، لكن كلا الطرفين يملك مشكلات تستحق الدراسة، فمن ناحية، هناك اليمين المتطرف الذى يقود حملات معادية، ومن أمثلته:
• حركة بركولن (ألمانيا) حركة متطرفة معادية للمسلمين ظهرت عام 1996، بدأت بتنظيم مسيرات احتجاجية رافعة شعارات مثل "ضد أسلمة كولونيا"، وطالبت بوقف بناء المساجد والمؤسسات الإسلامية، ما أدى إلى اعتداءات على المسلمين.
• حزب الجبهة الوطنية (فرنسا) تأسس عام 1972 بقيادة جان مارى لوبان، ويقوم على معاداة المهاجرين العرب والمسلمين، ويُعد من أبرز أجنحة اليمين المتطرف المعاصر.
يدرك صناع القرار فى الغرب أن هناك نقصًا فى القوة العاملة، وأن المسلمين والعرب، من العمالة البسيطة وحتى الأطباء وأصحاب المهارات العليا، يسدون فجوات واسعة داخل سوق العمل، وقد أثبت كثير منهم كفاءة واضحة، إلا أن القلق الغربى من تزايد أعداد المسلمين، خاصة مع انخفاض معدلات الإنجاب فى دول مثل إيطاليا، خلق هواجس تتعلق بالهوية، يقابلها قلق مقابل لدى المسلمين حول قدرتهم على التعايش فى ظل هذا الضغط.
وتفاقمت الإشكالية حين نُقلت الخلافات الدينية والمذهبية والسياسية إلى دول المهجر، وهو ما تستغله بعض الحكومات لتوظيف الجاليات سياسيًا، ومع ذلك، تشير المعطيات الحديثة إلى انتقال المسلمين فى الغرب من الهامش إلى الفاعلية، إذ بات منهم وزراء، وعمد مدن، ونواب برلمانيين، وكان لهذا تأثير واضح فى مواقف عدد من الدول الأوروبية خلال حرب غزة الأخيرة.
وقد آن الأوان للتوقف عن التعامل مع الأقليات المسلمة باعتبارها حالة يمكن التحكم فيها من الخارج. فهؤلاء مواطنون يجب أن يحصلوا على حقوقهم فى أوطانهم الجديدة، مع احترامهم لقوانين تلك الدول، وفى هذا السياق، يبدو إنشاء مجلس لعلماء أوروبا يُدار بعيدًا عن مسلمى أوروبا أمرًا يحتاج إلى مراجعة.
إن قوة الأقليات المسلمة فى الغرب تنبع من إدراك أن الإسلام بلا كهنوت، وأن دور العلماء إرشادى لا سلطوي. فكل مسلم قادر على قيادة الصلاة دون وسيط مقدس. ومن ثمّ فإن مصطلح فقه الأقليات أصبح بحاجة لإعادة نظر، لأنه يقوم على التعايش المشروط بمنطق التابع للآخر.
بينما المطلوب هو فقه التوطين: فقه يعزز الاندماج فى الوطن الجديد، ويوحد المسلمين القادمين من بلاد مختلفة داخل إطار مدنى يحمى مصالحهم ويحافظ على هويتهم الروحية بعيدًا عن أزمات الوطن الأم، وتملك بعض الدول الناضجة ديمقراطيًا، مثل السويد والنرويج، مساحة واسعة تسمح بهذا النمط من الاندماج دون المساس بحرية الاعتقاد والممارسة.
إن المطلوب اليوم حوار داخلى بين مسلمى الغرب أنفسهم وبين مؤسسات المجتمع الأوروبية لتحديد معنى الاندماج وكيفية تحقيقه. وربما يكون هذا هو المفتاح الحقيقى لمستقبل المسلمين فى أوروبا والأمريكيتين.
Trending Plus