قصف العقول.. دماء الكتب تسيل تحت أنقاض غزة.. اليوم السابع يحاور مؤرخا وشاعرا فلسطينيين حول العدوان الإسرائيلى على التراث.. ويؤكدان: بربرية الاحتلال لا تقل عن وحشية التتار

ممثل فلسطين باتحاد المؤرخين العرب: إسرائيل دمرت 200 موقع أثرى و90% من المكتبات

على نهج التتار قديما، كانت إسرائيل فى عدوانها على غزة لا تقصف الإنسان والمبانى التى يسكنها فقط، لكنها كانت تقصف معه تراثه، فى محاولة يائسة منها لتحويل فلسطين إلى دولة بلا تراث أو حضارة، لأنها تعرف خطورة الثقافة والعلم.

لو كان الكتاب يتنفس لصرخ من الألم، كأنه جرح لم يلتئم تحت ركام الدمار، لكنه اكتفى بالموت فى صمت، تاركًا خلفه رماد المعرفة والعلم والتنوير، تحت الأنقاض يرقد كتاب لم يكمل قصته، ومكتبة كانت يومًا منارة للعلم، وأصبحت مكانا مدمرًا لا يألفه الناس.

لكن الكتب لا تموت حقًا، فكلماتها عالقة فى ذاكرة من قرأوها وكل مكتبة هدمت ستظل تحيا فى وجدان أهل المكان، وحتى تكتمل الصورة وتظهر واضحة، كان علينا التواصل مع المثقفين والكتاب، لنرى حجم الخسائر التى خلفتها الحرب.

مكتبة الارشيف المركزي بلدية غزة فيها وثائق من 150 سنة

حسام أبو النصر: أكثر من 200 مخطوط تحت الركام.. إسرائيل قصفت كتبا فى العلوم الإسلامية والبلاغة والأدب والفلك والطب والرياضيات والأحياء، ونسعى إلى ترميم الوثائق فى مصر

الكاتب والمؤرخ حسام أبو النصر، ممثل فلسطين فى اتحاد المؤرخين العرب، حدثنا فى هذا الحوار عن الجانب الآخر من خسائر غزة، وهى الخسائر فى المؤسسات العلمية والثقافية، أو ما يمكن تسميته بالخسائر الحضارية، ومنها الكتب فى مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية، إلى جانب الخسائر الفادحة فى المخطوطات القديمة والنادرة.. وإلى نص الحوار:

حسام ابو النصر

دفعت الثقافة ثمنا كبيرا فى هذه الحرب.. كيف تقدر هذه الخسارة؟

هذه الحرب استهدفت ليس الإنسان الفلسطينى فقط، بل استهدفت كل مكوناته الحضارية والإنسانية والثقافية والمعالم الثقافية والتاريخية، وبالتالى قضت على كثير من الأوجه الثقافية التى كانت تمثل معالم حضارية للأجيال السابقة واللاحقة.
وأعتقد أننا خسرنا الكثير بتدمير عدد كبير من المواقع التاريخية منها أكثر من 200 موقع أثرى تضم مختلف الحضارات التى مرت على فلسطين، وأعتقد أننا بذلك خسرنا معالم مهمة تتحدث عن التاريخ الفلسطينى وسيرورة الحياة الفلسطينية.

ما حجم الدمار الذى تعرضت له المكتبات فى فلسطين خلال الفترة الأخيرة؟

الحرب قضت على 90 % من المكتبات العامة، وأنا هنا أتحدث عن أكثر من 100 مكتبة عامة أو تتبع مؤسسات وجمعيات ومراكز ثقافية، هذا على مستوى شمال غزة حتى رفح، ومن ذلك مكتبة رشاد الشوا ومكتبة البلدية ومكتبة دير البلح ومكتبة خان يونس، وكل مكتبات البلديات أيضا ومكتبات الجامعات ومنها الأزهر والجامعة الإسلامية ومكتبة جامعة فلسطين وجامعة الأقصى وغيرها من الجامعات، فالخسارة كبيرة جدا.

أتحدث عن حرق لا يقل فظاعة عما حدث فى عهد المغول والتتار عندما دخلوا بغداد وحرقوا جميع الكتب، ولا يمكن تعويض هذه الخسارة، لأن هناك كتبا نادرة ونقوشا حجرية ومخطوطات بخط اليد، فنحن نتحدث عن أكثر من 200 مخطوط كتبت بخط اليد، وهى مخطوطات أثرية قديمة وأيضا أتحدث عن آلاف النقوش الحجرية والوثائق القديمة.

كيف يؤثر تدمير المكتبات فى المشهد الثقافى والتعليمى بفلسطين؟

يؤثر هذا التدمير لأنه يؤخر العملية الثقافية، ويؤخر الوعى والفكر باعتبار أن هذه المكتبات كانت منارة ثقافية وعلمية للجمهور الفلسطينى فى غزة، وبالتالى فقدانه يعتبر فقدانا لإرث كبير من المعلومات الحضارية والتاريخية والعلمية، ما سيؤثر فى  المدى البعيد، وبالتأكيد تعويضها يحتاج إلى وقت كبير سواء من حيث الكم أو الكيف، لأننا نتحدث عن كتب نوعية كانت موجودة فى قطاع غزة، خاصة أنها مهد الشافعية ومهد العلوم، لأن غزة كانت منارة بها أقدم جامعة فى التاريخ أيام اليونانيين، وبالتالى نحن نتحدث عن منارة علمية كبيرة.

هل هناك خطط أو مبادرات لإعادة إعمار المكتبات المدمرة؟

بالتأكيد فهذا مهم لخطة إعادة إعمار شاملة وليس فقط المكتبات، فهى تشمل المراكز الثقافية والجمعيات الثقافية والمكتبات العامة وغيرها، كل هذا ضمن إطار الإعمار العام، لكن ذلك يتوقف على إعادة إعمار قطاع غزة بالكامل وبناء عليه يتم إعطاء الأولوية لهذه المكتبات لإعادة ترميمها وإعادة بنائها، خاصة أن هناك جامعات ومؤسسات عربية وعلمية ودولية تستطيع أن تسهم فى مد المكتبات بنسخ من الكتب المفقودة.

وهذا يحتاج إلى وقت بالتأكيد وفقا لرؤية معينة، ونستطيع أن نقول إننا حصرنا المكتبات التى تم تدميرها خاصة المنتشرة فى المدن والقرى فى قطاع غزة، أما المكتبات الشخصية للأفراد فلا يمكن إحصاؤها، خاصة أن كثيرا من أهلها أجبروا على النزوح ولا يمكن الوصول إلى معلومات كاملة عنهم، فمثلا أنا أمتلك مكتبة تضم 20000 كتاب وعنوان وفيها كتب نادرة عن تاريخ فلسطين، وبالتالى لا يمكن إحصاء حجم الضرر، هناك مكتبة المؤرخ سليم المبيض، ومكتبة الشهيد ناصر اليافاوى، واستشهد كل من سليم وناصر، نحن نتحدث عن مكتبات كثيرة لأفراد وشخصيات تضم عددا من الكتب النادرة والمجلات والوثائق وغيرها.

ما  الدور الذى يمكن أن تلعبه المؤسسات الدولية والمجتمع المحلى لدعم هذا الملف؟

‏المؤسسات المعنية بالوضع الثقافى من اليونسكو والإلسكو والايسيسكو وغيرها من المؤسسات العربية والدولية المعنية بالثقافة عليها أن تدعم هذا التوجه، وأن تقوم بإعادة إعمار المراكز الثقافية باعتبارها مسؤولية عالمية لحفظ هذا الكنز الحضارى العالمى، وأعتقد أنه يجب أن تكون هناك خطة متكاملة ومدروسة.

كيف يمكن حماية الإرث الثقافى من التدمير فى المستقبل؟

لا توجد ضمانات لذلك، لأن إسرائيل ضربت بعرض الحائط كل القرارات الدولية ومنها اتفاقية لاهاى واتفاقية جنيف الرابعة لحماية هذه المواقع، وللأسف استهدفت كل شىء بداية من الإنسان البسيط والصحفيين والطواقم الطبية وغيرهم من المدنيين، لذا أعتقد أن جيش الاحتلال لن يلتزم بأى شىء يتعلق بالحفاظ على هذه المواقع رغم أن جزءا منها ضمن المواقع التاريخية الأثرية المدرجة ضمن التراث العالمى المهدد بالاندثار، وبالتالى أعتقد أن هذا للأسف سلوك يعبر عن الخروج عن الإطار القانونى والدولى.

وأعتقد أنه لا ضمانات للحفاظ، لكن من الممكن بعد ذلك القيام بعمليات رقمنة وعمليات توثيق من خلال الطرق الحديثة وتحويل الوثائق إلى PDF، وقد كنا سابقا نقوم بعمليات حفظ من خلال الميكروفيلم وغيرها، الآن من الممكن الحفاظ عليها من خلال هذه الرقمنة أو على الأقل وضع نسخ فى مناطق آمنة قد تكون خارج قطاع غزة وخارج فلسطين، لكى نضمن أن تكون هناك نسخ لهذه الوثائق، كل هذه الطرق متاحة لكن يبقى الحفاظ على الأصل هو الأصعب.

ما أبرز العناوين والكتب النادرة التى فقدتها المكتبات؟

غزة تضم كثيرا من الكتب النادرة والمخطوطات منها فى العلوم الإسلامية والبلاغة والأدب والفلك والطب وغيرها من العلوم والرياضيات والأحياء، ومنها كتب قديمة مثل «اتحاف الأعزة فى تاريخ غزة»، وديوان «أبو زقاعة الغزى» وهو من أقدم الدواوين الشعرية.

أيضا هناك كتاب مهم هو «مخطوطات الشافعى» وأحد المخطوطات تضم أكثر من 800 ورقة كتبت بخط اليد، هناك كثير من الكتب النادرة وكانت محفوظة فى الجامع العمرى فى مكتبة الظاهر بيبرس.

مكتبة الظاهر بيبرس داخل الجامع العمري وتضم 200 مخطوط والاف الكتب الحجرية

هل توجد مجلدات أو كتب أو مخطوطات من الممكن أن تخضع لعمليات ترميم؟

نعم، فمن الطبيعى أن أى كتاب أو مخطوط ممكن أن تتم إعادة ترميمه سواء بالطرق اليدوية أو الآلية، فهناك نوعان من الترميم طبعا الآلى نحن نفتقده فى قطاع غزة ولكن ممكن عن طريق الترميم اليدوى، لكن هذا فى حالة إذا كان المخطوط لم يتعرض للتلف الكامل أو التدمير الكلى، لأنه فى حالة التدمير الكامل لا يمكن ترميمه أو إعادته إلى ما كان عليه.

ويتم الترميم فى حال إذا كان هناك احتراق جزئى، أو تكسر فى الأوراق بفعل الرطوبة وعوامل الزمن، كل هذا ممكن علاجه، لكن إذا تعرضت لتدمير القصف والحرق وغيرها بالتأكيد لا يمكن إعادة ترميمه بالشكل المطلوب، فهذا يحتاج إلى أدوات وإمكانات كبيرة، ونحن فى قطاع غزة نفتقد لذلك قبل الحرب، فما بالك بعد الحرب.

نحن قدمنا رؤية بأن يتم الترميم فى مصر أو دولة عربية أخرى، لكن صعوبة إخراج هذه الكتب والمخطوطات وخطورة التنقل كان عائقا لنقلها، لأن هناك صعوبة فى إرجاعها، وبالتالى أعتقد أننا بعد انتهاء الحرب سنقوم بإحصاء وحصر الكتب والمخطوطات التى تم تدميرها وإمكانية ترميمها أو عدم ترميمها.

الشاعر شجاع الصفدى: مكتبتى احترقت بما فيها من موسوعات فى قصف دمر الحى الذى أسكنه بالكامل

صاحب ديوان «زلة منام»: ليس لنا سوى الكتابة.. تراكم الحزن يقتل مثل السم فى القلب.. وأتمنى لو كان ذلك كابوسًا نصحو منه

الكاتب المثقف والشاعر شجاع الصفدى له العديد من الدواوين الشعرية المتميزة، منها «زلة منام»، و«قمح يفر»، والمجموعة الشعرية «سفر فى الفراغ»، والكثير من المقالات المهمة، كان يمتلك مكتبة خاصة تضم كنوزًا مختلفة، فقدها كلها، عندما تم محو مربعه السكنى بالكامل، وفى هذا الحوار يحدثنا «الصفدى» عن كتبه ومرارة فقدها، فلكل كتاب منها تاريخ يتذكره كميلاد أحد أبنائه.. وإلى نص الحوار:

شجاع الصفدي

فى البداية.. أخبرنا عن علاقتك بالكتب وكيف بدأت رحلتك مع الأدب والثقافة؟

يعود الفضل لوالدى، لقد نشأت فى أسرة تدمن القراءة، إخوتى كانوا يشترون الكتب ووالدى أيضا، وانتقلت هذه العدوى الجميلة لى. إننى أصغر إخوتى، ومع السنوات تراكمت مكتبة متنوعة. حب القراءة  فتح الأفق لتجربة الكتابة، وهكذا تدريجيا كان من المهم صقل الموهبة ومراكمة الخبرة.

كم عمر مكتبتك وكم عدد الكتب أو المجلدات التى تضمها؟

مكتبتى الخاصة بدأ تكوينها أوائل التسعينيات، فى مرحلة الشباب، وعندما انتقلت لبيت مستقل جهزت غرفة خاصة للمكتبة فى بيتى، ثم حظيت بالاستحواذ على مكتبة الأسرة كاملة، فبلغ عدد الكتب قرابة أربعة آلاف كتاب فى شتى المجالات.

مكتبتك كانت تضم كتبًا نادرة.. كيف استطعت جمعها وما الذى جعلها مميزة؟

هناك كتب ورثتها عن والدى وهو يملكها من الخمسينيات والستينيات، وهناك كتب نادرة كنت أحصل عليها من مكتبات قديمة، وخلال سفرى لبلدان مختلفة، خاصة مصر، كنت أعود بعدد كبير من الكتب المميزة.

ما أهم العناوين فى مكتبتك؟

من أهم المجلدات الموسوعة الفلسطينية كاملة بكل أجزائها، «الأغانى للأصفهانى، مجلدات فقه السنة، الأعمال الكاملة لمعظم الشعراء، قواميس ومعاجم مختلفة، موسوعات فلسفية وكثير من العناوين المهمة».

كيف شعرت عندما علمت بتدمير مكتبتك؟

عندما نزحت مجبرا عن بيتى لم أكن أتصور أننى لن أعود إليه، كان الأمر اعتقادا خاطئا أنه غياب قصير، لم أحمل شيئا، لم أصطحب ولو جزء من الكتب النادرة، ثم تدهورت الأحوال تماما، عندما وصلتنى الصور لحطام المكتبة شعرت كمن بنى صرحا ثم هدمه طوفان، ما زلت مشردا عن بيتى ومدينتى، أشعر بالوحشة والخسارة الفادحة.

كيف أثر هذا الفقد على حياتك ككاتب؟ هل فكرت فى التوقف عن الكتابة؟

ليس لى سوى الكتابة، لو تراكم الحزن مثل السم فى القلب سيكون قاتلا، لذلك ألجأ للكتابة ترياقا للسم الذى راكمته الحرب والخسارات.

هل هناك كتاب معين فقدته يسبب لك الحزن بشكل كبير؟

كل كتبى عزيزة على قلبى، لكن الكتب التى ورثتها من مكتبة والدى وأسرتى يحزننى خسارتها جدا، كما أن هنالك إهداءات عزيزة على قلبى وقد فقدتها.

ما هى أمنيتك بالوقت الحالى؟ هل هناك خطط لإعادة بناء المكتبة؟

أمنياتى مستحيلة، أتمنى لو كان ذلك كابوسا نصحو منه، لكن للأسف هو حقيقة مريرة، لا أفكر ببناء أى شىء حاليا، أقصى طموحنا هو النجاة.

هل وصلت إلى الكتب من تحت الأنقاض؟ وإذا وصلت ما هى الكتب التى تحتاج لإعادة ترميم؟

للأسف ليس لدى أى معلومة عن بيتى أو مكتبتى، أنا تعرضت للنزوح القسرى، والحى الذى أسكنه تدمر تماما.

ما رسالتك للعالم فى ظل هذا الدمار؟

العالم فى غفوة، ربما ليس علينا أن نوقظه، حتى لا تزعجهم صرخات الأطفال والضحايا، هذا العالم لا يرانا.. نحن كائنات مجهرية.

الاعلامية امل حبيب تجلس على انقاض مكتبة تماري صباغ في مركز رشاد الشوا

غزة

مكتبة الارشيف المركزي بلدية غزة فيها وثائق من 150 سنة

مكتبة الشروق غزة صاحبها عدلي نزال

مكتبة الشروق غزة صاحبها عدلي نزال

مكتبة الشروق غزة صاحبها عدلي نزال

مكتبة الظاهر بيبرس داخل الجامع العمري وتضم 200 مخطوط والاف الكتب الحجرية

مكتبة الظاهر بيبرس داخل الجامع العمري وتضم 200 مخطوط والاف الكتب الحجرية

مكتبة مركز التخطيط الفلسطيني