خالد دومة يكتب: الراعية 14

خالد دومة
خالد دومة

كانت الحياة قبله لا معنى لها، مجرد أيام تمضي وتذهب ولا تعود، كيف يعيش الإنسان بلا قلب يعينه على الحياة، على تقلبات الزمن، أن يحيا، أن تكون له روح، يمضي بها ما معنى أن تعيش بلا قلب ينبض، يدق، يتحسس الطريق نحو الحياة.

كنت قبله لا شيء، لا شعور، لا نبض، الجو بارد، الجليد يكسوني، يكسو حياتي، يغزو أيامي، كانت نظرته تذيب كتل الثلج المتراكم بداخلي، ليشتعل القلب نورا، ونارا تضيء، الأركان لا زلت أذكرها، كلماته البسيطة القليلة، تزرع في قلبي آلاف الأفدنة، من الحقول، تنثر على حافتها بذور الياسمين، تفوح بعطرها، تملأ الأنوف، كما تملأ القلب، رسم لي حياة، لم أكن أعرفها، حتى عرفته، بسط لي جناحيه، احتواني طاف بي عالم جديد، سمائي التي كنت أحفظها، من كثرت ملازمتي لها، اكتشفت أنني لم أكن أعرفها، لم أكن رأيتها من قبل، حتى نظرت في عينه وشعرت بقلبه، كان نبضي موصول بنبضه، عرفت به، كيف يكون للحياة معنى، عرفت لماذا أعيش، ولأي شيء كنت إذا لامست شفتاي شفتيه، ذقت حلاوة الوجود، تسري في فمي، للمرة الأولى، عطر جسده، حين يغزو أنفي، تمتلأ به فأمضي، بلا ذاكرة أنسى الأشياء، أنسى من أكون، وأين أنا وأحاول جاهدة إن امتزجت به امتزاج لا انفصال بعده، أتحلل في خلاياه، أتوارى في كل مسامه أسبح في دمه، ككرات الدم، أتجدد فيه، احتضني بكلتا يديه القويتين، كنت أرغب في أن يعتصرني، أصير شرابا يتناوله، فأسبح في أعماقه، أتجول عبر أوردته، هل كان يحبني، كما أحبه، لم أكن لأسال نفسي، لم يكن يهمني، المهم أني أحبه، أني وجدت المرفأ، الشاطئ الذي كنت أبحث عنه، كان بالنسبة لي كل شعوب الأرض، وما يعلوها من سماء وهواء، وذات مساء ألتقيته هناك، حيث كنا نلتقي، أنا وهو ولا شيء سوانا، خرجت في خلسة، كان الوقت متأخرا، كان الحب هو الذي يقودني، يأمرني فأطيع أوامره، بلا تردد.

وجدته جالسا على حافة ماكينة المياه، ظهره لي، ويبدو عليه أنه غارق في أفكاره، احتضنته من الخلف، التصقنا، أدار لي وجهه، تقاربنا تلامس أنفي بأنفه، وشفتي على شفته، بلا حاجز، ارتشفنا كلانا، كان الظمأ شديد، ولو بقينا إلى الأبد، لم نكن لنرتوي، أشتد الظمأ بكلانا، اتكأت على حائط قديم، لم تعد قدمي تستطيعان أن تحملاني.

كان بيني وبينه عشرون عاما، سنوات من الفكر والحياة، كان صديق أبي، ورشته مقابلة لدارنا، تبتعد أمتار قليلة، أفتح عيني كل اثنين أنظر إلى القفل المعلق، بباب الورشة، ينتابني الاكتئاب الشديد، إذا رأيته مغلقا، ينتابني هم عظيم، كان غالبا ما يجالس أبي، في ساعة متأخرة، يحتسيان الشاي، ويدخنان النرجيلة، يتحدثان في كل شيء، ثم يأوي كل منهما إلى فراشه، ليستأنف العمل، يوم الخميس يحمل حقائبه ويغادر، كان يوم الاثنين، عيد ميلادي، أو وفاتي، الويل إذا وجدت ذلك القفل المعلق، وسيارته التي كانت تركض أمام بيته، كنت أختلق الأسباب للخروج، لآتي بأي شيء، أو أصعد إلى سطح المنزل، لأسترق النظر إليه، وهو يعمل، كنت أنهيت الجامعة، ورفض أبي أن أعمل، كان سلوتي الوحيدة.

أحببته كثيرا، اعترفت له بحبي، أستقبلني في نشوة كبيرة، لا أدري هل أحبني بصدق، أم لا، سنتين من الحب المتواصل، من العشق الممنوع، من المشاعر الجارفة، من السهر على عتبات الجحيم، من الهوى الصارخ، من النسيم الجارح، من القلق والاضطراب، من الهموم من الأحزان، من الفرحة العارمة، من كل شيء، واللا شيء، كان الحب هو مفتاح الألم، الذي أكتسح حياتي، أبحث عنه، فإذا به أمامي أحتضنه وألوذ به، أسعى في حماه، وتحت لوائه، فإذا بها، يطحن قلبي بلا هوادة، أو روية، بكل قسوة، أبكي ثم أبكي ولا يتركني سوى جثة هامدة، كان الحب يبنيني هرما عظيما، وإذا به يهوي بي ركام أنقاض، كانت رسائلنا تقطن هناك عند شجرة العنب، تلك التكعيبة التي شهدت مآثرنا، لقاءاتنا في الخفاء، أحلامنا التي لن تتحقق، أجلس معه، ننسى العالم بأجمعه، نتبادل كلمات الحب، كؤوس مترعة، ننتشي نعلو برصيد زاخر من الحياة، ثم نمضي، يفرقنا الزمن، كنت أكتب رسائلي، وأتركها في ماسورة معينة هناك، أترك واحدة، وآخذ أخرى، ويشتعل لهيب الحب، بالمساء كانت أحاديثنا كل ليلة، تمتد لساعات عبر الهاتف، كنت أوصل الهاتف إلى حجرتي دون علم أحد، فإذا حل المساء، قطعتها من الخط الآخر، واتصلت به أشهر، ونحن نعب من رحيق الحب، حتى لاحظ أبي، اهتمامي به، حين يأتي إليه، فمنعني من مقابلته، أو الدخول عليه، أثناء وجوده معه، ولم أكن إلا لأمتثل لأبي، وإلا كان نصيبي الضرب والإهانة، وكنا نتواعد على مقربة من منزلنا، عند تلك التكعيبة، التي كانت ملتقي رسائلنا ولقاءاتنا، كانت المسافة بين قلبينا، قد تلاشت، حتى امتزجت، وصار قلبا واحد، وشعورا واحد، لم تكن عيوننا ترى سوى القرب، ويرى الآخرون إن المسافة بيننا عشرون عاما، مليئة بالعواقب بالأحجار، والسدود والموانع، أمتد خيالنا إلى كل شيء، رسمنا حياتنا في مخيلتنا سنوات معا، تملأها السعادة، التي لا تنقطع، حتى استيقظت لأرى القفل على الورشة، وخبر جلعني أشيخ، أستشعر أن عمري طاعن، وأن أيامي انتهت.

مات ومات معه كل حلم جميل، الأيام والسنوات، السعادة كيف أحيا بدونه، تعلمت على يديه معنى الحب، كل شيء يذكرني به، النافذة التي كنت أسترق النظر منها، خروجي من البيت أتلصص لعلني أراه، جلوسه مع أبي في المساء، كلماته ترن في أذني، صوته المرتعش، كلماته المنتقاة، إن الحياة، لا تريدني أن أحيا، فوقها بقلب، تريدني أن أتجرد منه، إنها تمسك برأسي، وتضرب به في حائط سميك، أصابتني بارتجاج، لكنني أعود لقلبي القديم، لعشقي القديم، أحاول أن أتوارى خلف الظلال، بعيدا عن العيون، أتعامى عن أن أرى، أحجب عن قلبي الضوء، أدفعه في غياهب الكهوف، حتى لا يرى، يطالبني بالحياة، بحقه في الحياة، بأن يعيش كالأخرين، أجادله بأن الحياة ليست من حقه، وأن الظلام مكانه، وأن ما يمناه أحلام لا حق له فيها، وأن من أخبروه ضللوه، بأن دواوين الشعر، التي قرأتها أفسدته، جعلته يظن بأن ما ليس له بحق حق له، أن تلك الروايات، التي فاز فيها البطل بقلب حبيبته، إنما هي محض خيال، لا أثر لها في عالمنا، عالم الجروح والآلام، يجب أن يفيق، أن ينظر إلى الحقيقة، أن ينظر في المرآة، ليتطلع إلى صورته، على الحقيقة، وألا يخدعه أحد، باسم الكلمات، باسم الحب، فهي كلمات جوفاء، لا قيمة لها، مجرد كلمات، رسمت حروفها بالألم، لتضلل السذج والضعاف، ممن يملكون مشاعر، في بلاد، تنفر منها، لا تقدر، لا ثمن لها، طالبته بأن يفيق، من تلك الغفوة، فإن هلاكه، سيكون على يديه، هل تعلمت الدرس، لم أذنب، لم أحيد عن الحق، طالبني قلبي بأن يكون له نصيب من الحب، كي يعش به، إنه بلا هوية دونه، أراد أن يكون له الحق في البقاء، أن يدافع، عن أن يعيش هكذا، أراد أو ظن، وكان ما أراد، أو ظن مجرد هراء.

سنوات بين العمل، والتخبط على عتبات الحياة، مرة هنا، ومرة هناك، لم يصادفني الحب، إلا لماما، يمر بي، ثم يرحل سريعا، كأنه يزورني على مضض، يذكرني بوجودي، على قيد الحياة، ثم يصفعني لأفيق، كان عملي في مصنع الملابس قد خفف عني قليلا، من رتم الحياة الممل، أذهب في الصباح الباكر، فلا أعود إلا بعد الرابعة منهكة، من فرط التعب، أتناول غذائي، التي أعدته أمي ثم أستريح ساعة، وأستيقظ أتناول وأمي الشاي، ثم نتحدث عن أحوال أخوتي والجيران والدنيا، كانت أمي حزينة لعدم إقبال أحد على الزواج مني، كنت أسمعها دائما تدعو لي بالعريس الذي يريح بالي، كما كانت تقول، في صلواتها، عندما تزوج أخي الأصغر، وهو أحن أخواتي علينا، رقيق القلب، عطوف يسعى دائما لإرضائنا، لكن زوجته شديدة، فعزل بها في شقة، تعلو شقتنا، التي بناها أبي له، ليتزوج فيها، كان يمر علينا في الصباح والمساء.

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

إطلاق المرحلة التنفيذية لأضخم مشروع جينوم بالشرق الأوسط باستثمارات 2 مليار جنيه

القوات المسلحة تفتتح نادى وفندق "6 أكتوبر الحلمية" بعد انتهاء أعمال التطوير

إخلاء سبيل متهمين بكفالة 10 آلاف جنيه في واقعة طفل المرور

مجلس الوزراء عن جدل شهادة الحلال: تعزز المنافسة وتعطى فرصة أكبر للقطاع الخاص

المتحدث باسم مجلس الوزراء يوضح ما أثير بشأن "شهادة الحلال"


12 يوماً تفصل زيزو عن انتهاء علاقته بالزمالك وارتداء قميص الأهلي

قوانين الانتخابات تُشعل تفاعل الأحزاب.. "الوعي": ندعم التعديلات ونطالب بتحالفات وطنية تضمن التعددية والتمثيل العادل.. وحزب المؤتمر: التعديلات ضرورة لضبط الخريطة الانتخابية وتحقيق التوازن السكان

صور الأقمار الصناعية.. موجة شديدة الحرارة على أغلب الأنحاء

رئيس الوزراء خلال منتدى قادة السياسات بين مصر والولايات المتحدة 2025: تمكين القطاع الخاص حجر الزاوية فى استراتيجية مصر للتحول الاقتصادى.. أكثر من 1800 شركة أمريكية تعمل فى مصر باستثمارات تجاوزت 47 مليار دولار

عبد الله السعيد يطلب مستحقاته المتأخرة من الزمالك قبل التفاوض على التجديد


موعد غرة ذو الحجة وأول أيام عيد الأضحى المبارك 2025 فلكيا

رابطة الأندية تُسلم درع الدورى للبطل فى احتفالية خاصة نهاية الموسم

الصحة: الجمعية العامة لمنظمة الصحة العالمية تعتمد قرارا تاريخيا تقدمت به مصر

التعليم العالى تقرر تحويل طلاب معهد الهندسة وتكنولوجيا السيارات لمعهد مناظر

شوبير: شركة تسويق عمر مرموش مهتمة بلاعب الأهلي الصاعد

برشلونة يواجه بيلباو فى معركة ختام الدوري الإسباني

لعبة متوارثة احتضنتها قنا لما يقارب نصف قرن.. "شطة" عميد لاعبى التحطيب فى قنا: الدفاع عن النفس هدفها وليس الهجوم ولا خصومة فى الإصابة لأنها مجرد لعبة حتى إذا أدت الضربة إلى الوفاة

أنفلونزا الطيور تهدد أمريكا اللاتينية.. الفيروس يضرب اقتصاد البرازيل مع توقف دول شراء الدواجن.. تفشى الفيروس فى الفيل البحرى بالأرجنتين: السلالة تحتاج لـ100 عام للتعافى.. ارتفاع أسعار الدجاج والبيض يثير القلق

ترتيب الأهلي وبيراميدز فى مجموعة البطولة بدوري nile

قطع المياه عن هذه المناطق بالقاهرة لمدة 8 ساعات.. تعرف على التفاصيل

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى