هل كان سقراط شخصية خيالية؟.. كتب تاريخية تعترف بوجود الفيلسوف وتشكك في صورته وأفكاره.. وتؤكد: غامض وملامحه لا تدل على يونانيته.. وتطرح السؤال الأخطر: هل قال أفلاطون على لسان أستاذه ما لم يقله؟

تمر هذه الأيام ذكرى موت سقراط، الفيلسوف اليوناني الشهير الذي رضي بالموت عن طريق شرب السم بعدما قضت المحكمة في ذلك الزمن القديم بإعدامه، وتركت له حرية اختيار الوسيلة، فمات رافضًا الهروب الذي حاول بعض تلاميذه أن يدفعوه إليه.
تحول سقراط إلى أيقونة مكتملة على أساس أنه أبو الفلاسفة، وها نحن ننسب لسقراط العديد من الحكايات والأقوال والمواقف، ومع كل هذه السنوات تفاجأت بأن البعض يظن أن سقراط شخصية خيالية، ولم يكن موجودا أبدًا.. فهل يعقل ذلك؟
تقول الكتب إن سقراط كان شخصية غامضة، فلم يؤلف أي نصوص، وعُرف بشكل أساسي من خلال الروايات بعد وفاته من خلال الكتاب الكلاسيكيين، ولا سيما طلابه أفلاطون وكسنوفون، لكن دعونا نرى إلى أى مدى كان موجودًا بالفعل؟
في موسوعة "قصة الحضارة" لـ ول ديورانت، نجد فصلاً ورد في الجزء السابع، حسب النسخة المنشورة على المكتبة الشاملة، وفي الفصل الخامس الذي جاء بعنوان "النزاع بين الفلسفة والدين" نجد موضوعا بعنوان "سقراط" جاء في أوله "مما يغتبط له الإنسان أن يقف آخر الأمر وجهاً لوجه أمام شخصية تبدو في ظاهر أمرها واقعية كشخصية سقراط، ونقول في ظاهر أمرها لأننا إذا تدبرنا المصدرين الذين لا مناص لنا من الاعتماد عليهما في كل ما نعرفه عن سقراط، وجدنا أن أحدهما وهو أفلاطون يكتب مسرحيات خيالية، وأن الآخر وهو أكسانوفون يكتب روايات تاريخية، وهذه وتلك لا يمكن أن تعدا من التاريخ الصادق الصحيح.
وقد كتب ديوجين ليرتيوس في ذلك يقول: "يقولون إن سقراط حين سمع أفلاطون يقرأ الليسيس Lysis صاح قائلاً: أي هرقل! ما أكثر الأكاذيب التي قالها عني هذا الشاب! ذلك بأن أفلاطون قد أنطق سقراط بأشياء كثيرة لم ينطق هو بشيء منها".
قصة الحضارة
والحق أن أفلاطون لا يدعي بأنه يقصر أقواله على الحقائق، وأكبر الظن أنه لم يدر بخلده قط أن المستقبل قد يعدم الوسائل التي يفرق بها بين ما هو سيرة حقة وما هو من نسج الخيال في كتابه. ولكن أفلاطون يرسم في المحاورات صورة منسقة لأستاذه من أيام شباب سقراط الوجل في البارمنيدس وثرثرته الوقحة في البروتاجوراس إلى تقواه المكبوتة واستسلامه في الفيدون، لا يسع الإنسان معها إلا أن يعتقد أنه إذا لم يكن هذا سقراط بحق فإن أفلاطون يعد من أكبر مبتدعي الشخصيات في الأدب بأجمعه.
وتقول الموسوعة: العالم كله يعرف وجه سقراط وملامحه. وإذا حكمنا عليه من تمثاله النصفي المحفوظ في متحف ترمي Museo Dell Terme بروما، وذلك حكم لا يستند إلى أساس قوي، قلنا أنه لم يكن أنموذجاً صادقاً للوجه اليوناني.
ذلك أن سعة وجهه، وأنفه الأفطس العريض، وشفتيه الغليظتين، ولحيته الكثة، كلها توحي بأنه ينتمي إلى أرض السهوب التي جاء منها أناكارسيس صديق صولون، أو ذلك السكوذي الحديث تولستوي.
تمثال سقراط
ومن تقرير نشره موقع إيلاف بعنوان "سقراط أول الفلاسفة" من إعداد عبد الله كرمون ، جاء فيه أشاد جان مونتينو، في مفتتح الملف الذي خصت به المجلة الفرنسية Lire، سقراط (399_469 قبل ميلاد المسيح؟)، في عددها 380 بأن هذا الأخير هو أب الفلسفة، وإن لم يكتب فيها سطرا واحدا.
ويبدأ بالتساؤل الجدير بنا طرحه: ما الذي نعرفه عن سقراط؟
نحن لا نعرف عنه أي شيء تقريبا، ماعدا أنه كان مواطنا أثينيا غريب الأطوار، ولم يغادر مدينته أبدا، حتى حكم عليه بالإعدام، بتهمة تأثيره الفاسد والسيئ على مواطنيه، في الوقت الذي بلغ فيه سن السبعين. وللتعرف على حياته، مثله مثل كل كتاب القدم، لابد من الرجوع إلى المصادر التي ذكرت سيرته، والتي تم الطعن فيها، وانتقادها من طرف جهابذة كل عصر.
يتم التفكير في الوهلة الأولى، من بين تلك المصادر، في صورة الفيلسوف العظيم الذي تربع على عرش حوارات أفلاطون، بالرغم من أن الحوار السقراطي كان نوعًا أدبيًا منتشرًا إذ ذاك، وليس حصيفًا اعتبار أن أفلاطون سعى فيها إلى حفظ ميراث الأب.
لقد أهمل النقد الحديث كثيرًا شهادة المؤرخ كزينوفون، بذريعة أنه كان حاضرًا في بعض الحوارات السقراطية، لأنه كان تلميذًا معاصرًا لسقراط. ولربما يعود الأمر في ذلك خاصة إلى ما عرف عنه من سذاجة.
لوحة موت سقراط
ومن الذين عرفوا سقراط في مراحل نضجه لا يفوتنا ذكر أريسطوفان (حوالي445/450 - 385 قبل ولادة المسيح)، وقد قدمه على أنه شخص كوميدي، في كاريكاتير هزلي، كنوع من السفسطائي ذي هيأة مضحكة، يقدم أجوبة عن بعض الأسئلة الغريبة والتافهة.
وتنضاف إلى هذه المصادر المباشرة شهادة أرسطو (384 - 322 قبل ولادة المسيح)، الذي لم يلتق في الواقع بسقراط، ولكنه أعطَ تدقيقات كثيرة حول تفكيره الخاص ما ساعد جيدًا على التفريق بينه وبين تفكير أفلاطون، الذي كان أحد أساتذة أرسطو ومن مريدي سقراط.
ويقول كتاب "كيف تقرأ أفلاطون" لـ ريتشارد كروات، والذي صدرت ترجمته عن مؤسسة "هنداوي" في الفصل الثاني " كان بروتاجوراس، وهو سفسطائي مشهور، معاصرًا لسقراط، أما كاليكليس، وهو واحد من القلائل الذين تحدثوا في أعمال أفلاطون وقد يكونوا شخصيات خيالية، فقد كان معجبًا بجورجياس، وهو معلم خَطابة مشهور وأحد معاصري سقراط".

كيف تقرأ أفلاطون
وفي كتاب تاريخ الفلسفة اليونانية لـ يوسف كرم، في الفصل السادس بعنوان "سقراط" يقول "فإذا أردنا أن نصور شخصيته وأن نقيد آراءه — وهو لم يُعْنَ بالكتابة قط — اعترضنا تضارب الروايات وتباين المدارس الآخذة عنه، وأشهر الروايات ثلاث صادرة عن ثلاثة معاصرين هم: أرسطوفان وأفلاطون وأكسانوفون، أما الأول فشاعر هزلي يقوم فنه على الهزؤ والهجو، فليس من الحكمة أن نعول على كلامه.
وأما أكسانوفون فلم يكن من أخصاء سقراط حكم عليه بالنفي ثلاثين سنة قبل محاكمة سقراط بسنتين، ولما عاد كان أفلاطون قد نشر مؤلفاته "السقراطية"، فشرع هو يكتب "مذكرات سقراط" واضعًا الأحاديث متأثرًا بناحية خاصة من نواحي الفيلسوف هي هذه البساطة المعروفة عنه، فغلا في تصويرها وأبلغها حد التبذل، فأخرج لنا صورة تافهة لا تفسر ما كان لسقراط من خطر، فلا يبقى سوى أفلاطون نلتمس عنده ترجمة لسقراط وهو تلميذه الأمين لزمه طوال السنين العشر الأخيرة، وعرف التلاميذ القدماء وشهد المحاكمة واختلف إليه في سجنه وحفظ له أجمل الذكرى، ولكن كتب أفلاطون محاورات يتوارى فيها وراء شخص سقراط، يستخدمه لأغراضه وينطقه بأفكاره على ما يفعل مؤلف القصص التمثيلي، فكيف السبيل إلى تبين الحقيقة من الخيال والتمييز بين ما لأفلاطون وما لسقراط من آراء؟ المسألة دقيقة، ونعتقد أن المراجع المأمونة هنا المؤلفات الأولى فهي قريبة العهد بسقراط، وغرضها الرواية والمحاكاة يضاف إليها الصفحات التاريخية في "فيدون" وبعض مواضع من المؤلفات الأخرى، ثم إن لأرسطو نصوصًا قليلة، ولكنها صريحة تعين على تصوير المذهب".
وبعد هذا التجوال السريع فيما كتب عن سقراط، فإننا نطمئن إلى أن سقراط كان موجودا بالفعل، لكن كثيرا مما يتعلق بشخصه ربما غلبت عليه المبالغة أو غابت الدقة في تصويره.
Trending Plus