مهرجان برلين صرخة سينمائية فى وجه اليمين المتطرف..«تعددية»تبحث عن قبلة حياة أمام دعوات الانعزال..الدورة 75تراقب صعود الأحزاب الشعبوية..«الضوء» يرصد التحولات السياسية بالمجتمع..وأرض المهاجرين يحذر من إقصاء الآخر


توترات لا يمكن إغفالها، وترقب لما يصدر من قرارات داخل البيت الأبيض تعيشه ألمانيا التى تستضيف فى الوقت الحالى الدورة الـ75 لمهرجان برلين السينمائى الدولى. طالت برلين تبعات الولاية الرئاسية الثانية للرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وما صاحب ذلك من مؤشرات صعود قوى لأسهم اليمين واليمين المتطرف فى استطلاعات الرأى على صعيد الداخل الألمانى بل والأوروبى على حد سواء، وهى مؤشرات لم تكن غائبة عن دوائر النخبة، وكانت حاضرة بقوة فى أفلام المهرجان التى كانت بمثابة جرس إنذار، ومحاولة سينمائية للتحذير من دعاوى الانعزال والخطابات الرافضة للآخر، وتلك التى ترى فى المهاجرين سببا لأزمات الاقتصاد وعائقا أمام مسيرات التنمية.
المهرجان الذى عقدت فعالياته قبل أقل من أسبوعين على انعقاد الانتخابات الفيدرالية، كان منصة للحديث عن القضايا الاجتماعية والسياسية عبر الفن، فالدورة الحالية من المهرجان ليست مجرد تجمع سينمائى، بل انعكاس للواقع السياسى المحلى والعالمى.
وفى الوقت الذى تعكس فيه استطلاعات الرأى صعود حزب «البديل من أجل ألمانيا»، «AfD» اليمينى المتطرف، مستغلا قضايا مثل الهجرة ورفض اللاجئين خاصة فى المناطق الشرقية من البلاد، التى تعانى من مشاكل اقتصادية واجتماعية مستمرة، تكافح فى المقابل أحزاب تقليدية مثل الحزب الديمقراطى الاجتماعى «SPD» وحزب الاتحاد المسيحى الديمقراطى «CDU» للحفاظ على موقعها، لكن تحدياتها تتمثل فى التصدى للموجة المتزايدة لخطاب اليمين المتطرف، الذى يعزز من مشاعر القومية والعزلة. هذا الصراع بين اليسار واليمين يعكس تحولات كبيرة فى السياسة الألمانية، ويضع المهرجان السينمائى، مثل مهرجان برلين، فى قلب هذه التحولات السياسية التى تراقبها ألمانيا والعالم عن كثب.
المهرجان هذا العام كان شاهدًا على هذه التحولات، حيث عكست العديد من الأفلام المعروضة تأثيرات هذه الأيديولوجيات المتطرفة. من أبرز الأفلام التى عرضت فيلم الافتتاح «الضوء»، «The Light»، الذى سلط الضوء على قضايا الظلم السياسى والتشوهات الاجتماعية، الفيلم الذى أخرجه ماركو سيمون، استعرض قصة عائلة تعيش فى ظل أنظمة قمعية، مما يبرز الصراع بين النور والظلام فى الحياة الفردية والاجتماعية.
فى إحدى اللحظات القوية، قال بطل الفيلم: «إن النور ليس فى السماء فقط، بل فى أعيننا، فى قدرتنا على أن نكون حقيقيين مع أنفسنا».. هذه الكلمات تعكس بعمق واقعنا المعاصر، حيث تصبح الحقيقة والحرية فى عالم ملىء بالصراعات، هى النور الذى يجب أن نسعى إلى تحقيقه.
«الضوء» عرض فى المسابقة الرسمية Competition التى تعتبر أبرز فعاليات المهرجان.
أحد الأفلام الأخرى التى لاقت صدى كبيرًا فى المهرجان، كان «أرض المهاجرين»، «Land of Migrants»، وهو فيلم وثائقى يسلط الضوء على حياة اللاجئين فى أوروبا، خاصة فى ظل الأزمات السياسية الراهنة. يُظهر الفيلم التحديات اليومية التى يواجهها المهاجرون، ويطرح أسئلة حول السياسات الأوروبية تجاههم ومدى تأثير هذه السياسات على حياتهم. تم عرض هذا الفيلم فى قسم «Panorama»، الذى يقدم أفلامًا تتناول القضايا الاجتماعية والسياسية المعاصرة.
وعلى هامش المهرجان، يرى صناع السينما ونجومها العالمين أن فى صعود اليمين المتطرف داخل القارة العجوز فى الوقت الحالى مسارا منطقيا، ومماثلا لما شهدته الدول الأوروبية المختلفة فى ولاية الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الأولى، حيث حفز فوزه الأول الأحزاب اليمينية، وعزز من قوة خطابها الداعى للإقصاء تحت ستار الشعارات البراقة مثل «أمريكا أولا».
يرى النقاد وصناع السينما الأوروبيين أن ولاية ترامب الثانية لا تختلف فى ملامحها حتى الآن عن الفترة السابقة، ففى قراراته الأولى بعد العودة، أقدم ترامب على فرض تعريفات جمركية على دول من بينها أوروبا، وقاد حملة شرسة ضد المهاجرين وفرض قيودا على منح الجنسية، وهى أفكار تشكل إلهاما لسياسات اليمين الأوروبى الذى ربما يعود بقوة فى كل العمليات السياسية المقبلة داخل أوروبا، وفى مقدمتها الانتخابات الألمانية المقبلة.
ومن بين الأفلام المميزة التى عرضها مهرجان برلين فى نسخته الحالية، فيلم «دخان الحرب»، «Smoke of War» الذى يتناول تبعات الحروب الحديثة على المجتمع.
يتتبع الفيلم الحياة اليومية لأسرة تأثرت بشكل كبير بالنزاع المسلح فى منطقة الشرق الأوسط، ويعرض التحديات التى يواجهها اللاجئون والمجتمعات التى تحاول التكيف مع واقع الحرب. عرض هذا الفيلم فى قسم «Forum»، وهو قسم مخصص للأفلام التى تسعى لاستفزاز التفكير النقدى حول القضايا الإنسانية والفكرية بشكل عميق.
عرض أيضًا فيلم «عصفور الحروب»، «The Birds of War» فى قسم «Berlinale Special»، الذى يعرض أفلامًا بارزة قد تكون خارج المسابقة الرسمية، ولكنها تثير اهتمامًا خاصًا من المهرجان والجمهور على حد سواء. فى هذا الفيلم، يناقش المخرجون تأثير الحروب على الأفراد، وكيفية صمودهم فى مواجهة المعاناة النفسية والجسدية، التى تتركها الحروب خلفها.
وبينما كانت السينما أداة تحليلية لهذا الواقع، عكست الكثير من الأفلام من خلال موضوعاتها تأثير السياسات المتطرفة على الأفراد والمجتمعات. تناولت الأفلام قضايا العنصرية والتطرف السياسى، كما استعرضت تأثير الحروب والنزاعات على الحياة اليومية، السينما أصبحت هذه المرة أداة للتعبير عن التوترات السياسية، بما فى ذلك القضايا المتعلقة بالهجرة واللجوء، التى يعانى منها العديد من الأفراد فى مختلف أنحاء العالم. ومن اللحظات البارزة فى المهرجان، كانت كلمة النجمة البريطانية تيلدا سوينتون، التى تعرف بأدائها المميز والمثير للاهتمام، حيث قالت فى حفل الافتتاح: «السينما لا يجب أن تكون مجرد ترفيه فقط، بل يجب أن تكون وسيلة لفتح الحوار حول القضايا الاجتماعية والسياسية»، ورغم حضورها اللامع فى عالم السينما، لم تغفل تيلدا أهمية الفن فى معالجة القضايا الهامة، مثل القمع والتهميش.
قالت «تيلدا» فى كلمتها: «نحن نعيش فى وقت يحتاج فيه الفن بشكل عام، والسينما بشكل خاص، إلى أن تكون أكثر من مجرد وسيلة للترفيه. نحن بحاجة إلى أن تكون الفن أداة للوعى والتغيير».. هذه الكلمات كانت بمثابة دعوة للأفلام لمواكبة الأحداث وتقديم رؤى تساهم فى التغيير، وبذلك، أصبح مهرجان برلين فى دورته الـ75 ليس فقط منصة لعرض الأفلام، بل حدثًا يناقش قضايا كبرى تواجهها البشرية، ويستدعى الوعى الجماعى تجاه التحديات السياسية والاجتماعية.
إن مهرجان برلين هذا العام كان أكثر من مجرد فعالية سينمائية، فهو كان وسيظل انعكاسًا للواقع السياسى والاجتماعى فى العالم، منذ تأسيسه وانطلاقه حتى الآن ووسيلة للفن لكى يتفاعل مع الأزمات الكبرى التى نعيشها، من صعود اليمين المتطرف إلى تأثيرات السياسات الدولية، بينما قدم المهرجان منصة لعرض أفلام تعكس هذه التوترات، كانت كلمة تيلدا سوينتون بمثابة تذكير لنا جميعًا بأن الفن يحمل فى طياته قدرة هائلة على التأثير والتغيير.

Trending Plus