سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 3 فبراير 1975.. وفاة سيدة الغناء العربى أم كلثوم بعد غيبوبة 100 ساعة ونصف قرن من الإعجاز الغنائى الذى جعلها رمزا لوحدة عربية لم تتحقق سياسيا

اندفع الأطباء إلى غرفة الإنعاش فى مستشفى المعادى العسكرى، يحاولون فعل أى شىء من أجل إنقاذ سيدة الغناء العربى «أم كلثوم»، تجمعوا حولها وقاموا بعملية تدليك عنيف للقلب ودفع للأكسجين بأكبر قوة ممكنة داخل رئتيها، وأخيرا حقنة فى القلب نفسه، لكن القلب رفض أن يستجيب، لتموت فى تمام الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر يوم 3 فبراير 1975، حسب جريدة الأخبار فى عددها الصادر فى اليوم التالى للوفاة «4 فبراير 1975».
تصدر نبأ رحيلها الصفحات الأولى للصحف اليومية المصرية والعربية والعالمية، وحملت تفاصيل رحيلها، وجنازتها، وتجاهلت الأخبار الرئاسية والسياسية فى هذا اليوم، «ولم يحدث ذلك فى تاريخ تلك الصحف لفنان إلا لأم كلثوم، فلم يبلغ أحد تلك المكانة التى بلغتها، فكل الصحف اتشحت بالسواد، وحولت بعضها لون «اللوجو» الخاص بها إلى الأسود حزنا على رحيلها»، وفقا للكاتب الصحفى محمد توفيق فى كتابه «الملك والكتابة».
كان موتها نهاية لمائة ساعة من الغيبوبة التى بدأت «بارتفاع شديد فى ضغط الدم، أدى إلى نزيف فى المخ، مع تدهور فى حالة الكليتين ومضاعفات فى القلب»، بتأكيد جريدة الأخبار، وكان موتها ختاما لحياة عاشتها بجسدها 71 عاما إذا أخذنا بتاريخ مولدها فى عام 1904 طبقا لتقديرات، أو77 عاما إذا كان مولدها فى عام 1898 طبقا لتقديرات أخرى.
ولدت فى قرية طماى الزهايرة بمركز السنبلاوين، محافظة الدقهلية، ورغم تقدمها فى السن إلا أن صوتها «تحدى قوانين الطبيعة» وفقا للدكتورة رتيبة الحفنى فى كتابها «أم كلثوم معجزة الغناء العربى»، مضيفة: «الصوت عادة يشيخ مع التقدم فى السن، لكن لم يحدث غير تغيير طفيف فى صوتها فى السنوات الأخيرة، وذلك بعد تخطيها سن الستين، وهو انخفاض فى مساحات طبقات صوتها المرتفعة بينما احتفظت بجمال رنين صوتها».
كانت حالة غنائية فريدة فى التاريخ العربى عبر عنها نجيب محفوظ فى رواية «ميرامار»: «ليلة غنائها هى ليلة جميع الطبقات، والأفراد، وصوتها علامة عصر بأكمله»، وقالت مجلة «لايف» الأمريكية عام 1962: «فى الساعة العاشرة ليلة الخميس الأول من كل شهر، يحدث شىء غريب فى الشرق الأوسط، يهدأ الضجيج فى شوارع القاهرة فجأة، وفى الدار البيضاء التى تبعد 2500 ميل إلى الغرب، يكف الشيوخ عن لعب الطاولة فى المقاهى، وفى بغداد التى تبعد 800 ميل إلى الشرق، يحدث نفس الشىء، الكل ينتظرون برنامجا معينا تذيعه إذاعة القاهرة، مدة هذا البرنامج خمس ساعات، ويذاع ثمانى مرات فى السنة، ونجمته مطربة اسمها أم كلثوم».
هى «قصة فتاة ريفية كبرت لتصير رمزا ثقافيا لأمة كاملة» برأى «فرجينيا دانيلسون» فى كتابها «صوت مصر- أم كلثوم»، ترجمة: عادل هلال عنانى، وتضيف: «فى جميع جوانب حياتها العامة كانت أم كلثوم تبرز قيما قومية، لقد ساعدت على تشكيل الحياة الثقافية والاجتماعية المصرية وعلى التعجل بتحويل الثقافة المصرية إلى أيديولوجية».
أصبحت رمزا ثقافيا عربيا جامعا بالرغم من أنها لم تحصل على شهادة علمية واحدة، وحتى رحيلها ظلت تفتخر بأنها «البنت الطالعة من الغيطان والفلاحين وريقها يجرى على أكل السريس والمهلبية»، حسب شهادة الموسيقار عمار الشريعى فى كتاب «أم كلثوم وحكام مصر»، وتقول هى عن نفسها فى مذكراتها المنشورة بجريدة «الجمهورية - يناير1970»: «اتحرمت من كل حاجات البنت اللى فى سنى، الهدوم الملونة الزاهية أم نص كم، ماكنتش ألبس فى هذا الوقت غير الجلابية اللى كانت بتجرجر فى الأرض، اللى لونها حشمة، ولو خرجت لازم ألبس الطرحة، ماكنش بيبان منى غير وشى وبس».
وتضيف: «كانت الأيام دى هى الفترة اللى اتعلمت فيها كل شىء، لأنى ما تعلمتش فى مدرسة، أو تخرجت من جامعة، المدرسة اللى تعلمت فيها هى الأزقة والحوارى والأجران، اتعلمت كتير من الفترة دى، اتعلمت الصبر من الناس الفلاحين والغلابة، اللى باشوات زمان وبهاوتها كانوا بيذلوهم ويستعبدوهم، ومع كده كان الناس برضه صابرين زى ما كانوا عارفين إن الليل لازم يطلع له نهار، وإن الظلم مش حيدوم أبدا».
لم تذكر فخرها بأنها ابنة الريف بفقره للاتجار به، ففى معارك مصر الوطنية تقدمت الصفوف بكل عظمة، وبلغت ذروة عطائها بعد نكسة 5 يونيو 1967، حيث لزمت بدروم فيلتها حزينة وحيدة، وكان ذلك من عادتها وقت أحزانها حسب تأكيد سعد الدين وهبة فى كتاب «أم كلثوم وحكام مصر»، ولما غادرته انتفضت لتنطلق بالغناء داخل مصر وخارجها لصالح المجهود الحربى، فقدمت حفلاتها فى المنصورة ودمنهور وطنطا والإسكندرية والقاهرة، كما قدمت حفلاتها فى تونس والمغرب والكويت ولبنان والسودان وفرنسا، وألغت حفلاتها فى موسكو وهى هناك فور أن تلقت خبر وفاة الزعيم جمال عبدالناصر وعادت إلى القاهرة، وفى نوفمبر 1971 اختتمت حفلاتها لصالح المجهود الحربى فى أبوظبى.
Trending Plus