خالد دومة يكتب: الراعية 13

كنت أتوق إلى شيء ما، لا أعرفه، ولكني أسمع نداء قويا، ينبعث من أعماق روحي، باحثا عن ذلك الشيء، الذي يجعل لحياتي معنى، ولوجودي قيمة، كنت أبحث عنه، في جميع الوجوه، التي تقابلني، أتفحص فيها بدقة شديدة، أعيد النظر مرارا وتكرارا، إلى كل ما يدور حولي هناك، في أعماقي، أفتقد لذلك الشيء، العيون من حولي، لا يبدو عليها أنها تحمل شيء مما أريد، كنت في الخامسة عشر من عمري، حين وجد ذلك الشيء، يسري بداخلي أرق في الليل، وشرود طيلة النهار، تغيير فيما أحب، وما اكره، طعم الأشياء في فمي يتغير، الألوان، الأشكال الخطوط التي تقع عليها عيني، الطرق، زرقة السماء، التي بدت أكثر جمالا وجلالا، العطور التي كانت تخنقي، الآن أتحسس العطور، حتى تمتزج بروحي، الحصا التي كنت ألعب بها ساعات، لم تعد تستهويني عروستي، التي بدأت تشكو من أهمالي لها، ووحدتها بعد كانت تشاركني في كل شيء، لم أعد أبوح لها بما أشعر به.
أنا نفسي لا أدري ما انتابني، ما حدث لي، أهو مس شيطاني أصابني، هناك من يسكن جسدي غيري، أحس بذلك، كان الجمال يطغى على الأشياء، يكسو كل الأرض، وينتشر فيها، ليعطي لها معنى في عقلي جديد تماما، لست على دراية به، أهو الهواء أصابه شيء، أهو الماء اختلط بشيء لا أدري، كنت على مسافة بعيدة منه، أراه ولا أجرؤ على القرب منه، ولا ملامسته، ولكني كنت أتمناه، أتمنى قربه مني، حتى يغزو حياتي، ويحيلها من ذلك القفر والظمأ، إلى أرض حية، تمتد عبر ربوعها المساحات الخضراء، على امتداد النظر والقلب، ما أجمل أن يتفتح قلبك، كزهرة للحياة، للحب يحيلك بعد أن كنت تكلأ مع من يكلأ، أشحن الجسد بالطعام، تاركة روحي قابعة في أغواري، لا ترى النور، ولا تعرف الحياة، رأيته للمرة الأولى، حين دخل علينا الفصل، كنت كعهدي دائما في الديسك الأخير، في نهاية الفصل، وسمح لنا بالجلوس.
الحصة الأولى تعارف، اسمك بالكامل؟ وماذا تتمنى في المستقبل أن تكون؟ لم أفكر من قبل، لم يمتد طموحي إلى ما بعد الهروب ساعات من العمل، والوحدة، والفرار من رائحة الأغنام، التي كانت تزكم أنفي طوال الليل والنهار، وقفت أمامه أتلعثم، ماذا أقول، أبتسم في وجهي، قال: ألم يكن لديك طموح، في أن تكوني أي شيء في المستقبل، لاعب كرة قدم مثلا، أو مصارع، أو حتى دكتورة، أم تريدين أن تتزوجي، وتقعدي في البيت، لكن لا أدري، لماذا قلت له أريد أن أصبح معلمة، ربما أحببت هذه المهنة، منذ لحظات فقط، منذ أن دخل علينا، كانت نظراتي تهيم بعيد، أدرك خجلي الشديد، الذي أحسست به، أشار لي بالجلوس، كنت أختلس إليه النظرات بين الحين والآخر، أحببت النظر إليه، كنت لا أريد أن أدير بنظري عنه، ولو للحظة واحدة، كنت أدعي التركيز فيما يقول ويشرح لنا، رغم أن عقلي وقلبي، شاردان في فضاء لا نهائي، كان لطيفا معي، وأنا لم أعهد ذلك من أحد، فقد كان الجفاء نصيبي الأوفي من الجميع، وبلا استثناء، تعامل معي على أني إنسان كامل الإنسانية، مما جعلني أنشغل به وأقدره، وربما أحببته حبا جما، كان يدرك بذكائه، إنني أعاني نقصا حادا في العاطفة، في الشعور بالحب، والدفيء وبدا يزودني بها، كي يعيد إلي الشعور بنفسي وإنسانيتي، تابعني برفق، وتعاطيت على يديه جرعات من الحنان، والرقة والشعور بالجمال، لم يخبرني أحد من قبل، بأني جميلة، أنا نفسي لم أراني يوما جميلة، حتى المرآة كنت لا أنظر إليها إلا في المواسم، أو بالصدفة، ولم أكن أهتم بذلك، جعلني الأن كل يوم لا أخرج من بيتنا، إلا اذا نظرت في المرآة، ومشط شعري، واختلست قليل من الكحل، أزين به أهدابي، كنت أشكو لأمي أن عينيي تؤلمني، لتضع لي قليل من الكحل، أقبلت على مادته، عشقتها كنت أقضي معظم الوقت في مذاكرتها، لامس في شيء، كنت أجهله، كنت أطير في ذهابي إلى المدرسة، وفي الإجازات أستثقلها، كان عاما من الغذاء الروحي، علمت فيه أن لي قلب يعمل، وأن روحي، لازالت حية، بعد أن ظننت لسنوات، أني لا أختلف كثيرا عن تلك الأغنام، التي أسوقها، وأن الفرق بيني وبينها، أني أتحرر قليلا من القطيع، ثم أعود على الفور ألتصق به، وأسير في ركابه، في نهاية العام، استدعاني إلى حجرة المدرسين بمفردي، وألقى علي درسا، ورغم عنفه أو هكذا كنت أراه، إلا إنه أمدني بالطاقة، لمواصلة الشعور بالحياة، كان أبا في حديثه، أوصاني بنفسي، وأنه يجب ألا يجعلني أحد أنسى ما وهبني الله إياه، ربما لم يكن حظي من الجمال كبير، ولكن هناك ما هو أهم من الظاهر، هناك الروح التي أهملتها، وتركتها حتى صدأت، فلا يجب أن أجعل من نفسي في أيدي الناس سلعة، فأنا لست سلعة تباع وتشترى، إنما أنا إنسان، بروحي بقدري وعقلي وقلبي، بكيت حين غادر، فقد سافر، أنتقل إلى بلد أخر، ولكنه ترك أثرا عظيما في نفسي، جعله دائما ما يطرأ على ذهني، ولم أنساها رغم السنوات الطوال، التي مرت بعد ذلك، كانت الأنثى بدأت تدب في أعضائي، وتنبهي وتفرض علي أشياء، لم تكن في حسابي، ولم أدري عنها شيء.
Trending Plus