قراءة فى رواية "المدينة وجدرانها غير المؤكدة" لهاروكى موراكامى

تظل أعمال هاروكي موراكامي من أكثر الأعمال الأدبية إثارة للاهتمام والتحدي في الأدب المعاصر، وتتمثل خصوصيتها في قدرتها على دمج الواقع مع الخيال بأسلوب مميز يعكس حالة من الحيرة والبحث الدائم عن المعنى في عالم متشابك مليء بالغموض. في روايته الجديدة "المدينة وجدرانها غير المؤكدة"، يقدم موراكامي قصة فريدة من نوعها تجمع بين البحث عن الحب المفقود، والبحث عن الذات، والتساؤلات الوجودية حول الحدود بين العوالم المختلفة.

الواقع والخيال: تمزج عوالم لا يمكن الفصل بينها
 

الركيزة الأساسية لرواية "المدينة وجدرانها غير المؤكدة" تكمن في التعامل مع مفهومين متناقضين: العالم الواقعي والعالم المجهول. يبدأ موراكامي روايته بشخصية شاب عاشق يفقد حبيبته فجأة، وتصبح هذه الخسارة هي محور الرواية. لكن، ما يميز الرواية هي الطريقة التي يدمج بها موراكامي بين السرد الواقعي والخيالي، ليخلق عالمًا متداخلًا حيث يصبح الحلم والواقع شيئًا واحدًا.

يبدأ الرجل في رحلة بحث عن حبيبته الضائعة، لكن هذه الرحلة لا تقتصر على التنقل بين الأماكن، بل هي أيضًا رحلة نفسية وروحية بين العوالم المختلفة. عالمه الجديد هو "المدينة المحاطة بالأسوار"، مدينة غير حقيقية أو ربما تكون جزءًا من خياله، مليئة بالكائنات الغريبة مثل وحيد القرن، وحيث تتلاشى الحدود بين الحياة والموت، والوعي واللاوعي. يمكن تفسير هذه المدينة على أنها استعارة لما يعيشه الإنسان من صراع داخلي، حيث يتساءل عن وجوده في عالم مليء بالضبابية، وربما يكون هذا "العالم الآخر" هو تمثيل لحالة اللايقين التي تهيمن على واقع الشخصيات.

الشخصيات: رحلة داخل النفس البشرية
 

على الرغم من أن الرواية تحمل طابع الخيال، فإن الشخصيات فيها تمثل معاناة إنسانية حقيقية. الرجل الباحث عن حبيبته المفقودة هو في الواقع يبحث عن ذاته. في رحلته، يلتقي بأشخاص يشكلون مفاتيح لفهم عالمه الداخلي، ومن بينهم الصبي الغريب الذي يساعده على رؤية الحقيقة. هذا الصبي يمثل الوعي الباطن للشخصية الرئيسة، ويظهر بمثابة مرشد يوجهه نحو فهم معاناته.

الراوي في الرواية يبدو مشوشًا، مما يضيف إلى الرواية سمة من الهلوسة والضبابية، فتتداخل الذكريات مع الأوهام، ويصبح من الصعب التمييز بين ما هو حقيقي وما هو متخيل. يجعل هذا الغموض القارئ في حالة من الاستفهام المستمر، حيث يطرح أسئلة حول ما إذا كان الرجل يواجه حقيقة أم مجرد وهم.

الرمزية: ما وراء الجدران
 

كما هي عادة موراكامي، فإن الرمزية تلعب دورًا رئيسًا في الرواية. يمكن اعتبار "الجدران" التي تحيط بالمدينة تمثيلًا للعوائق النفسية والوجودية التي يواجهها الأفراد. تمثل هذه الجدران القيود التي يضعها الإنسان على نفسه نتيجة للخوف من المجهول، وللرغبة في حماية ذاته من الحقيقة التي قد تكون صادمة. في عالم "المدينة وجدرانها غير المؤكدة"، تصبح هذه الجدران رمزًا للحدود بين الوعي واللاوعي، بين الواقع والخيال، وبين الحياة والموت. والمفارقة هنا أن الجدران نفسها هي التي تمنح الشخصيات حرية اكتشاف الذات؛ إذ أن الخروج منها قد يعني مواجهة الحقيقة بكل بشاعتها.

اللغة والأسلوب: السهل الممتنع
 

يتميز أسلوب موراكامي في الرواية بالبساطة التي تخفي وراءها عمقًا فكريًا هائلًا. جملته قصيرة، لكن مليئة بالمعاني والرموز. يتنقل بين الأفكار والمشاعر بشكل سلس، ليخلق حالة من السرد السلس الذي يجذب القارئ، بينما يتركه في الوقت نفسه في حالة من التساؤل المستمر حول معنى الأحداث. وعلى الرغم من أن الرواية مليئة بالمفردات الأدبية المعقدة والرمزية، فإن طريقة تقديمها تبقى في غاية الوضوح، مما يجعل الرواية في متناول القارئ العادي دون أن تفقد بعدها الأدبي.

جدلية الوجود والمفقود
 

تعد "المدينة وجدرانها غير المؤكدة" رواية تتحدى القارئ في البحث عن معنى الحياة والوجود في عالم مليء بالتناقضات. هي رواية عن الحب المفقود، ولكنها أيضًا عن البحث المستمر عن الذات والمغزى وراء الوجود. كما يظهر في الفكرة المركزية للرواية: الحقيقة ليست ثابتة، بل تتغير باستمرار، والقصص الحقيقية تكمن في الحركة الدائمة.

يبرع موراكامي مرة أخرى في خلق عالم أدبي يمزج بين الخيال والواقع، ليقدم لنا رواية ليست مجرد قصة حب، بل قصة وجودية تحفز القارئ على التفكير في حياته، وفي علاقاته، وفي حدود فهمه للعالم.