سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 8 فبراير 2008.. وفاة الناقد رجاء النقاش «ابن الفقراء» الذى أغنى الثقافة العربية باكتشافاته للمبدعين وكتاباته النقدية السهلة والعميقة فى نفس الوقت

«عزيزى رجاء النقاش، كنت وما زلت أخى الذى لم تلده أمى منذ جئت إلى مصر، أخذت بيدى وأدخلتنى إلى قلب القاهرة الإنسانى والثقافى، كنت من قبل قد ساعدت جناحى على الطيران التدريجى، فعرفت قراءك علىّ وعلى زملائى القابضين خلف الأسوار، عمقت إحساسنا بأننا لم نعد معزولين عن محيطنا العربى».
هكذا وصف الشاعر محمود درويش، الناقد والكاتب رجاء النقاش فى رسالة بعث بها إليه فى حفل تكريمه بنقابة الصحفيين المصرية يوم 13 يناير عام 2008، وبعد أربعة أسابيع تقريبا توفى «النقاش» فى 8 فبراير، مثل هذا اليوم، بعد معاناة من مرض السرطان استمرت نحو ثلاث سنوات، وبعد حياة بدأت بمولده يوم 3 سبتمبر 1934 بقرية «منية سمنود» بمحافظة الدقهلية، وكان هو الابن الكبير لأسرة تصفها شقيقته فريدة النقاش: «فقيرة، كبيرة العدد، حاربت من أجل أن تعلم أبناءها، ولاحقتها البلهارسيا منذ الطفولة، وخطفت تداعياتها أمنا وهى فى عز شبابها وحاجة أطفالها لها، ثم حوم الموت بسببها مرة أخرى ليخطف «وحيد» الشقيق الأصغر مباشرة من «رجاء»، وتوأم روحه وجرحه الغائر الذى لم يندمل أبدا»، وفقا لما جاء فى العدد الخاص لمجلة الهلال، فبراير 2007» بعنوان «رجاء النقاش القلم والإنسان».
تؤكد «فريدة»: «فقر الأسرة لم يهزم طموح أبنائها بل علمها الاجتهاد دون أن يعظها أحد، وحدث ذلك تحت مظلة أب هو عبدالمؤمن النقاش مدرس الإلزامى الفقير، الحريص على تكوين مكتبة فى بيته ساعدت الأبناء، وعددهم ثمانية، على تحصيل العلم والثقافة»، ويعتبر رجاء أن والده هو أستاذه الأول، أما رجاء نفسه وكابن أكبر جعلته الأيام أبا ثانيا لإخواته حسبما يقول شقيقه فكرى فى عدد الهلال الخاص: «كان أبا ثانيا حتى قبل وفاة أبينا، فمنذ طفولتى وهو يعمل ويكدح وهو ما زال طالبا».
هذا الجانب الإنسانى فى شخصية «رجاء» نرى رائحته فى كلمات محمود درويش عنه التى تؤكد سخاء العطاء منه للثقافة العربية، فهو فى رأى الكاتب اللبنانى طلال سليمان: «أطل على الثقافة كصاحب منهج نقدى رصين كان فى حقيقة أمره داعية لنهضة عربية عنوانها عقائدى، ومضمونها العروبة، فهو قد استشف من نتاج المبدعين فى المشرق والمغرب، كتاب قصة وروائيين وشعراء وحدة الوجدان، والتوحد فى حلم النهوض الذى يكون بالأمة جميعا، ولا يكون بأى قطر منفردا»، وجاء هذا الانحياز للعروبة إيمانا منه بالمشروع القومى الذى قاده جمال عبدالناصر فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى، وعملا بهذا المسار، وحسبما يذكر الدكتور جابر عصفور فى مقاله بالهلال «قيمة مصرية نادرة»، أنه اكتشف إبداع الروائى السودانى «الطيب صالح»، فكتب عنه بعد أن قرأ له رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال»، مؤكدا فى مقال كتبه سنة 1968 أنه إزاء عبقرية روائية جديدة، يمكن أن يضعها فى موازاة أفضل الروايات العالمية فنا وعمقا ومتعة، وكان كشف رجاء لعبقرية الطيب صالح الروائية علامة مضافة إلى علامات قدرته التنبؤية على اكتشاف العبقريات الإبداعية قبل غيره».
هذه القدرة التنبؤية التى يتحدث عنها «عصفور» هى التى أدت برجاء إلى أن يحلق فى سماء عروبته ليكتشف المبدعين الاستثنائيين فيها، فيقدم الشاعر محمود درويش فى كتابه «محمود درويش شاعر الأرض المحتلة» الصادر عن «دار الهلال» عام 1969، ويقول الشاعر سميح القاسم فى «عدد الهلال الخاص»: «كان للعم رجاء النقاش دوره المتميز فى تقديم الأدب العربى الفلسطينى إلى القراء، لا فى جمهورية مصر العربية فحسب، بل فى جميع أرجاء الوطن العربى الكبير، كما كانت له اليد الطولى فى إبراز الطاقات الثقافية العربية الخارجة على قوانين الخنوع وطقوس الهوان، وأعراف الانحناء فى مواجهة الطاغوت».
شق رجاء طريقه فى عالم النقد الأدبى بمبدأ تعلمه من أستاذه الناقد الدكتور محمد مندور، يذكره فى لقاء تليفزيونى مع فاروق شوشة: «مندور أول من علمنى أن الأمانة فى النقد جزء من الضمير الدينى»، وقدم رجاء أمانته بسهولة على القارئ فى اللغة دفعت «شوشة» إلى أن يسأله عن «سر أو كيمياء لغته السهلة والعميقة فى نفس الوقت خاصة، أنه يكتب فى النقد الذى يكتب فيه أكثر النقاد بلغة صعبة»، فيجيب بأنه يدين بالفضل فى هذا للأدباء الذى قرأ لهم وتعلم من كتاباتهم مثل طه حسين والعقاد توفيق الحكيم.
وعن هذه اللغة السهلة والعميقة يقول الناقد إبراهيم فتحى فى عدد الهلال الخاص: «تميزت كتابة رجاء النقاش الصحفية بطابع متفرد، فهى رغم اتساع جمهورها وقوة تأثيرها، بعيدة عن السطحية وسوقية استهداف الإثارة السريعة، وتنتمى فى أدب الأفكار إلى نوع أدبى قائم بذاته، نوع هو المقالة الإبداعية، أى ذلك الفن الصحفى الذى يعالج تجربة سياسية أو أدبية أوثقافية عموما بالتحليل والاستدلال المتقصى البعيدين عن خواء التجريدات مهما تكن متداولة».
Trending Plus