سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 14 مارس 1969.. «هيكل» يكتب عن الجنرال الذهبى عبدالمنعم رياض بعد أيام من استشهاده ويكشف أسرار تفوقه العلمى العسكرى وتمسكه بالمعركة ضد إسرائيل وعدم زواجه

ارتبط الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل والفريق الشهيد عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة بصداقة قوية، بدأت فى موسكو عام 1957، وتواصلت حتى استشهاد رياض بقذيفة إسرائيلية بالإسماعيلية يوم 9 مارس 1969.
كان الاثنان فى موسكو لغرضين مختلفين، «هيكل» يجهز لحوار مع الزعيم السوفيتى «خروشوف»، و«رياض» ضمن وفد عسكرى مصرى يبرم عقودا لصفقة سلاح، حسبما يذكر «هيكل» فى مقاله «فى تحية عبدالمنعم رياض.. الجنود القدامى لا يموتون»، الأهرام، 14 مارس، مثل هذا اليوم، 1969.
كشف «هيكل» فى مقاله عن محطات كثيرة جمعتهما، وحوارات كثيرة بينهما أتاحت لهيكل أن يكتب عنه عن قرب، موضحا فكره العسكرى بعمقه الاستراتيجى الشامل، ودوره مع الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية فى إعادة بناء القوات المسلحة، وإعدادها للمعركة ضد إسرائيل، حيث اختارهما عبدالناصر بعد هزيمة 5 يونيو 1967 لهذه المهمة، وينقل هيكل قول فوزى له: «عبدالمنعم ليس له مثيل، لم يكن فى الاستطاعة أن يكون لى رفيق فيما كُلفت به غيره».
يتوقف هيكل فى مقاله أمام سمات شخصية عديدة لرياض أهمها «تقديره للعلم فى أى معركة»، لأنه يرى أن العلم هو ميزة العدو علينا، باعتبار استعداده الإنسانى لاستيعابه، ثم حاجته إليه لتعويض نقصه البشرى فى مواجهة فيض بشرى عربى، يضيف: «من المؤكد أن عبدالمنعم رياض ظل طالب علم، وذلك أعظم ما يمكن أن يكونه أى إنسان مهما علا قدره وارتفع مقامه، وربما ساعده على حسن تقديره لأهمية العلم فى المعركة، أنه كان بحكم عمله فى المدفعية المضادة للطائرات، على اتصال مباشر بتطورات علمية واسعة الأثر، فالمدفعية المضادة للطائرات أصبحت تعتمد على الصواريخ والتعامل بالصواريخ فى حد ذاته مقدرة على الانطلاق إلى بعيد، كذلك فإن تعدد مصادر دراساته فى بريطانيا والاتحاد السوفيتي، واستعداده لأكثر من لغة، الإنجليزية والفرنسية والروسية كلها بطلاقة، إلى جانب العربية بالطبع، أتاح له فرصة رحبة غير مقيدة».
يستشهد هيكل بما رآه مرة فى موسكو، قائلا: «كنت أزور «أكاديمية القيادة العلمية للقوات المسلحة السوفيتية»، وقال لى دارس مصرى فيها: إن عبدالمنعم رياض، الذى درس هنا قبل سنوات جعل مهمة الذين جاءوا بعده بالغة الصعوبة، إن الجنرال بايتشنكو، وهو من كبار المعلمين السوفييت، وله تاريخه فى الحرب العالمية الثانية، لا يمل من أن يكرر للدراسين العرب: على هذا المقعد الرابع فى الدورة الأولى التى اشترك فيها دارسون عرب، كان يجلس الجنرال رياض».
ويكشف هيكل أنه اصطحب إليه ياسر عرفات رئيس حركة فتح وقتها، ويؤكد: «كانت متابعة النقاش بينهما متعة لا تقدر بالنسبة لى، كان حديثهما عن المقاومة، وعملها، ومشاكلها، وكان عبدالمنعم رياض وهو الجندى النظامى من الدرجة الأولي، خبيرا فى الحرب الشعبية ومن الدرجة الأولى أيضا، ولم يكن ذلك رأيى وإنما كان رأى عرفات»
يلخص هيكل ما قاله رياض له فى آخر لقاء بينهما قبل شهر من استشهاده، قائلا: «كان هناك تحليل نفاذ منه لأزمة الشرق الأوسط، على ضوء أوضاع الاستراتيجية العالمية، وهناك ثقة كاملة منه فى امكانية الانتصار فى معركة على العدو إذا أعطيت المعركة امكانياتها المناسبة، ووقتها الكافي، وكان يقينه ليس بحتمية المعركة فحسب وإنما بضرورتها، وأذكر قوله بالحرف: لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة، عندما أقول شرف البلد، أعنى شرف كل فرد، شرف كل رجل وكل امرأة، كان شديد الوعى بأهمية قضية التنمية، كان اهتمامه بالقيادات الجديدة فى القوات المسلحة زائدا، وكان قوله: لا تصدق ما يقال من أن القادة يولدون، الذى يولد قائدا هو فلتة من الفلتات لا يقاس عليها كنابليون مثلا، القادة العسكريون يصنعون، يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة، وما نحتاج إليه هو بناء القادة.. صنعهم».
لم يتزوج عبدالمنعم رياض «مواليد 22 أكتوبر 1919»، وعاش فى شقة بمصر الجديدة مع أخته الأستاذ فى كلية العلوم التى لم تتزوج هى الأخرى لرعايته، يذكر هيكل: «فى آخر حديثنا وجدنا أنفسنا بقرب من حياته الشخصية، كان فى مشروعاته ذات يوم قبل الحرب مشروع زواج لم يتم، قال لى: لم أعد أفكر فى هذا الأمر الآن، ولم يعد لدى وقت للتفكير فيه، أريد أن أعطى حياتى كلها للمعركة، بعد المعركة من يعرف كيف تسير الأمور، ربما عاودت التفكير مرة أخرى فى مشروع الزواج، أنت تغرينى بأحاديثك عن البيت السعيد والأولاد، ولكن الوقت متأخر بالنسبة لى فى مسألة الأولاد، عندما يجىء السلام سوف أبحث عن قطعة أرض صغيرة، وأبنى عليها بيتا صغيرا تحيطه الزهور، وسوف أقرأ كثيرا، وربما فكرت أن أكتب، وقد تكون هناك زوجة ترضى بالعيش مع عجوز مثلي، لا أتصور أن أفعل شيئا آخر غير ذلك».
يعلق هيكل: «إننى أفهم الجنرال ماك أرثر (الأمريكى) عندما قال: الجنود القدامى لا يموتون.. ولكنهم يبتعدون فقط».
Trending Plus