133 عاما على ميلاد سيد درويش.. ماذا قال عنه بيرم التونسى والعقاد وعبد الوهاب؟(1-3)

هذه الأيام وتحديدا يوم 17 مارس تكون قد مرت 133 عاما على ميلاد فنان الشعب سيد درويش فهو من مواليد الأسكندرية حى كوم الدكة عام 1892 ومازال هو صاحب أكبر ثورة فنية فى مسيرة وتاريخ الغناء فى مصر مع بدايات القرن العشرين.
واذا كان عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين قد نادى بجعل التعليم كالماء والهواء للمصريين وهو ما نجح فيه حتى المرحلة الثانوية عندما كان وزيرا للتعليم قبل ثورة يوليو، فإن سيد درويش جعل الغناء كالغذاء الروحى والماء والهواء تتنفسه كافة طوائف الشعب وتردده فى كل تفاصيل الحياة.
أنزل درويش الغناء من عليائه وحطم أسوار حبسه داخل جدران القصور وفى حضرة السادة والأمراء والملوك داخل القصور والسرايات ومجالس النساء، وأتاحه للبراح فى الحوارى والأزقة والشوارع والمقاهى وفى الريف والمدن، للعمال والفلاحين والسقايين والبنائيين والصنايعية وباقى الطوائف وأصحاب المهن البسيطة و..للحلوة اللى قامت تعجن فى البدرية. فهو باعث النهضة الموسيقية والغنائية فى الشرق كله وليس فى مصر فقط.
عبقرية سيد درويش – أو السيد درويش محمد البحر اسمه الحقيقي- جعلت والد الشعراء محمود بيرم التونسى يكتب مقالا مطولا فى جريدة " الزمان " التونسية" التى ترأس تحريرها عام 1932 حتى عام 1935 ، أثناء وجوده فى تونس لفترة قضاها فيها منفيا خلال سنوات نفيه وتشريده من مصر إلى فرنسا عام 1920 بقرار من الملك فؤاد، واستمرت أكثر من 18 عاما، وتساءل فيه بيرم عن ماذا كان يميز الشيخ سيد درويش كملحن عن غيره من الذين سبقوه؟..وكيف تأثر به الذين عاصروه ؟.. وكيف تكون حالته حين يضع ألحانه؟.. كتب بيرم مقاله بعد أن فوجئ بعدم وجود أى أسطوانات لسيد درويش فى تونس وحين سأل تجار الفونوغرافات عن السبب أجابوه «لأنها ما تتعداش» أى "لا تروج".
يقول بيرم التونسى فى مقاله: «الشيخ سيد كملحن امتاز على المتقدمين بإرسال الكلام المنسجم، كما لا يردده ولا يقطعه بالآهات السخيفة، والحشو المرذول، وهو الملحن الشرقى الوحيد الذى يفرغ على الكلام ما يناسبه من التلحين، فإذا سمعت ألحانه موسيقى، مجردة من الكلام، أدركت ما فيها من طرب، وحزن، وثورة، وذل، وضحك، وتهكم، ويودع اللحن روح الشخص الذى يعبر اللحن عنه كما يسمع من لحن «الحشاشين» و«السقالين» و«المراكبية» وسائر ألحانه التى غناها الكبير والصغير فى الشرق العربى".
يضيف بيرم: «وقد أصبحت الفئة القليلة التى يخصها الشيخ سيد بصداقته ويختارها لمجلسه، أصبحت وكل واحد منها لحن يشار إليه بالبنان اليوم، كالأساتذة زكريا أحمد ومحمد القصبجى، وإبراهيم فوزى وغيرهم.
يعطى بيرم مثلا بالقوة الموسيقية الجبارة للشيخ سيد قائلا: «كانت الرواية التى افتتح بها فرقته «شهر زاد» وكان على أن أنظم له خمسة عشر لحنا فى مواقفه المختلفة، ولا يتصور غيرى وغيره أننا اسكندريان لكل منا المشاكسة والعناد وما يخيف الآخر، ويجعله يحسب حساب صاحبه، وأشعر أن السيد رد على أبلغ رد فى ألحانه لهذه الراوية، بل أشعر أنه انتقم لنفسه أبلغ انتقام وأدب من اتهمه أحسن تأديب بدون أن يحتاج إلى جريدة وقلم، ويعلم الله أن الوقت الذى قضيته فى العمل معه كان عبارة عن جِلاد ونزال، فلم أقدم له من الأوزان إلا كل غريب مستعصى لم يركب عليه لحن من قبل، وكنت أنظم اللحن الواحد فى عدة أيام، بينما الزجل العادى لايكلفنى إلا ساعات قليلة وكان هو من جهته يقابلنى بالمثل، فلا يرضى من اللحن إلا بعد أن يستعد له فى أسعد ساعات صفائه، ويعود عليه بالتنقيح والتغيير، ثم يعلنه ويسجله بالنوتة».
يؤكد بيرم: «كانت روايته «شهر زاد» مثلا بديعا للموسيقى الكلاسيكية التى لم تطرق الأذن الشرقية، ولذلك لم تلتقطها اسماع العامة فى الشوارع وتغنيها كغيرها من الألحان الخفيفة الشائعة، إلا أنها تغنى فى الحفلات الراقية بواسطة الهواة الذين يجيدونها، فمنها اللحن الوطنى الذى ينشده جندى مصرى أمام الملكة حين سألته من أى بلاد هو؟: «أنا المصرى كريم العنصرين/ بنيت المجد بنيت الأهرامين/ جدودى أنشأوا العلم العجيب/ ومجرى النيل فى الوادى الخصيب/ لهم فى الدنيا آلاف السنين/ ويفنى الكون وهم موجودين/ وأقول لك عللى خلانى / أفوت أهلى وأوطانى / حبيب أوهبت له روحى / لغيره لا أميل تاني/».
يكشف بيرم : «فى هذه الرواية «شهر زاد» لحن وقف يعالجه مدة طويلة حتى سلسل له، واستطاع نقله إلى عالم النغمات، وهو زفاف الجندى إلى حبيبته فى حلفة كبرى وقد ضاق المرحوم «الشيخ سيد» به ذرعا، وثبت لديه أننى أتعمد معاكسته، ولكنه كان أشد مراسا وأقوى شكيمة، وكنت أعتقد أننى قدمت له من هذا اللحن قطعة من الفولاذ المسبوك ولكنه نفخ عليها فإذا بها قد طارت شعاعا إلى عليين.
تغنى المجموعة: زفوا العروسة للعريس الجميل/ زينة العرسان/ البدر يتمتختر وجنبه تميل/ وردة البستان».
ترد إحدى الجوارى: يارب تجعل فى ليالى السعود/ طالع النجمين/ واجعل سهامك فى عيونك الحسود/ واحرس الاثنين».
العريس للعروسة: الليلة اتهنى وأشوف فى المنام/ صدك الهزاز/ وافرح واسقينى كاسات المدام/ خدك الغماز».
ترد العروسة: أنت ظهر نجم سعودك/ وانا الزمان عوض صبرى/ الليلة حلوة بوجودك/ ما تنتكبشى من عمرى"
لم يكن هذا رأى بيرم التونسى فقط بل قال عنه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، فى كتابة "رحلتي"، عن سيد درويش وأدواره فى الفن العربى وأفضاله، "يخطئ من يتصور أن سيد درويش أغنية ولحن.. إن سيد درويش فكر.. تطور .. ثورة .. فسيد درويش هو الذى جعلنى أستمتع للغناء بحسى وعقلى .. بعد أن كنت أستمتع بحسى فقط .. إنه فكرة العصر التى لولاها لما لحن الملحنون بالأسلوب الذى يلحنون به الآن، ولا ننسى أنه أول من أدخل اللهجة المسرحية السليمة الحقيقة للأعمال المسرحية".
ويضيف عبدالوهاب "من أفضال الشيخ سيد درويش على الألحان العربية أنه أدخل الأسلوب التعبيرى فى ألحانه حتى فى الأدوار التقليدية الكلاسيكية التى لحنها، بالإضافة أن له أفضال كثيرة على كل ألوان الغناء".
ويقول الموسيقار:" قبل سيد درويش لم نكن نسمع عن شىء اسمه ملحن إن سيد خلق للملحن المصرى الشخصية الملكية، سيد لحن لأصوات المطربين ولأصوات الشعب ونحن لا نزال نعيش فى خيره فهو الأستاذ الأكبر لهذه المدرسة التى نعيش فيها".
أما الأديب والمفكر الكبير محمود عباس العقاد فقد قال عن سيد درويش:" جاء هذا النابغة فناسب بين الألفاظ والمعانى والألحان، وناسب بين الألحان والحالات النفسية التى تعبر عنها بحيث تسمع ما يغنيه فتحسب أن كلماته ومعانيه وأنغامه وخوالجه قد تزاوجت منذ القدم"
ويضيف العقاد" لم يكن الغناء كذلك منذ أن عرفناه وإنما كان لغوا لا محصل فيه وألحانًا لا مطابقة بينها وبين ما وضعت له ، وربما يكون الدور مقصوداً به الحزن والشجون ولحنه يميل بالسامع إلى الرقص واللعب أو مقصود به الجزل والمزاح ولحنه يميل إلى الغم والكآبة ، ولم تكن الأنغام والأصوات عبارات نفسية وصور ذهنية ولكنها كانت مسافات وأبعاد تقاس على كذا من الآلات تربط بكذا من المفاتيح ثم لا محل فيها بعد ذلك بقلب يتكلم ولا لقلب يعى عنه ما يقول ، وعلى هذه السنة درج الغناء عهداً طويلا إلى أن أدركه عبده الحامولى ومحمد عثمان فنقحاه بعض التنقيح لكن هذا الفن ظل كطائر مقصوص الجناحين كليل العينين يلمس قضبان القفص أينما سار"
أما الموسيقار السكندرى محمد عفيفي، وهو أكبر حافظ لتراث سيد درويش ، فيقول" ان معظم ما كتب ونشر عن سيد درويش اهتم بتأصيل حياته والأحداث التى مر بها أكثر من اهتمامهم بموسيقاه ، ويرجع ذلك إلى أن معظم من أرخوا لسيد درويش هم من غير الموسيقيين ، أما الشأن الفنى فلم يحظ بالاهتمام الكافى ، ونجد فى الفيلم السينمائى الوحيد الذى أنتج عن سيد درويش ضحالة تامة فى القصة والسيناريو والإخراج ، بل وإساءة أيضا إلى شخص الفنان المبدع والثائر على الفساد والاستعباد ، العاشق للوطن وللحرية ، والغيور على فنه والمحترم له ، والمجدد بل الباعث لنهضة فنية إستمرت لعشرات السنين وألهمت أجيال كثيرة بعده ، ورغم أن فناناً مثله يمكن أن نرى له عشرات الأفلام العظيمة دون أن يتكرر فيها مشهد واحد ، ويكفيه ما قدمه من أوبريتات رائعة ، أنتج بعضها على نفقته الخاصة.
Trending Plus