كيف نقرأ التاريخ (2)

ما زلنا مع الحديث عن قراءة التاريخ، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة المقال السابق..
هل التاريخ «مجرد كلام نظرى»؟
تعال نرجع بالزمن إلى العصور المعروفة بـ«ما قبل التاريخ»، عندما كان الإنسان القديم ينظر للنيران الناتجة عن الصواعق العاتية والبراكين المدمرة بخوف شديد، ثم اكتشف بالصدفة أن احتكاك حجرين صلدين أو بعض الأخشاب الجافة المدببة يمكنه أن يولد نارًا.. لاحظ أن الحيوانات تشترك معه فى الخوف من النار، فقرر أن يستخدم ما اكتشف من قدرته على إشعال النيران وتطويعها فى حماية نفسه وأسرته من الحيوانات المفترسة التى اعتادت مهاجمته، وبدأ بالتالى ينقل سكنه من أعلى الأشجار إلى الأرض حيث تمثل الكهوف مساكن طبيعية جاهزة لاستقباله يكفى إشعال نار كبيرة عند مدخلها لطرد الضوارى عنها..
بعد فترة تصادف أن سقطت فى النار قطعة لحم من غزال اقتنصه أحد الصيادين، مست أنفه رائحة الشواء الشهية فتساءل إن كان الطعم بنفس جاذبية الرائحة، تشجع وقضم من اللحم بتوجس فأدرك أنه قد وقع على اكتشاف مبهر: الطعام الذى طهته النار ألذ طعمًا وأيسر مضغًا وهضمًا منه وهو نيئ، تبع ذلك اكتشاف لا يقل أهمية هو أن النار تجفف الطين وتجعله صلبًا، فلماذا إذن لا يشكل من الطين المحترق أوعية لحفظ طعامه؟ ولأن السعى للتسلح والقدرة على إيقاع الأذى بالأعداء يشغل جزءًا لا بأس به من اهتمامات الإنسان، تساءل إذا ما كان من الممكن استخدام تلك النار فى صنع قذائف يوجهها لأعدائه؟ وهكذا راح بنو الإنسان يكتشفون استخدامات النار ويورثونها بعضهم بعضًا جيلًا لمن يليه، وراح كل جيل يطور ما اكتشف السابق له، ويضيف له المزيد.
إن قصة الإنسان مع النار اكتشافًا وتطويعًا وتطويرًا هى خير تعبير عما يميز البشر: حفظ وتوارث الخبرات وتطويرها.. باختصار: الإنسان كائن تاريخى، فعلى حد علمى لا يوجد كائن آخر يمتلك نفس الحرص على حفظ وتوارث وتناقل الخبرات الحياتية، وهو ما يمكن وصفه بـ«حركة التاريخ»، أى أن التاريخ ليس مجرد كلام عن أحداث ماضية بشكل نظرى بحت، بل أنه يعنى بحفظ تلك الخبرات بغرض الاستفادة منها.
فى مقدمة كتابه الرائع «العِبَر وديوان المبتدأ والخبر» يقول العلامة عبدالرحمن بن خلدون - والمعروفة بـ«مقدمة ابن خلدون» - أن التاريخ فى ظاهره مجرد قصص، لكنه فى الحقيقة تحقيق وتدقيق فى خبرات الماضى لفهمها وبالتالى امتلاك القدرة على فهم وتحليل أحداث الحاضر بغرض استقراء وتوقع المستقبل والاستعداد له، افتح المواقع والقنوات الإخبارية وانظر فى التحليلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الرياضية والفنية، ستلاحظ أنها تقوم على أساس فهم التجارب والخبرات السابقة ثم وضع التوقعات لما هو قادم بناء عليها.
بل إننا فى حياتنا اليومية نمارس مثل هذا النشاط بتلقائية تجعلنا لا نلاحظه، قل لى: على أى أساس تقرر اختيار طريقك للتوجه للعمل أو لأى مشوار آخر؟ لماذا تقول لنفسك: «سأتخذ هذا الطريق بالذات وسأتحرك قبل موعدى بساعة كاملة لأصل فى الموعد المحدد»؟ لأن «الطرق الأخرى فى هذا الوقت تكون عادة مزدحمة والطريق الذى سأتخذه يحتاج عادة إلى ساعة للوصول للمكان المراد».
هل لاحظت معى أنك قد احتفظت بخبرات سابقة ثم طبقتها على الحاضر بغرض الوصول لنتيجة مستقبلية؟
وهل تتفق معى إذن أن التاريخ مجال أكبر وأعمق من أن نعتبره مجرد كلام نظرى؟
دعنا ننتقل إذن لنقطة أخرى، هى مصطلح «ما قبل التاريخ»، يخطئ البعض فيحسبون أن المصطلح يعنى «ما قبل وقوع التاريخ»، بينما المقصود به فى الحقيقة هو «ما قبل كتابة التاريخ»، وتعال أشرح لك معنى هذا.
الإنسان العاقل الحالى «الهوموسيپيان» يقدر وجوده على كوكبنا بنحو 200000 إلى 300000 سنة، يوصف معظم تلك الفترة ب«ما قبل التاريخ» حيث لم تكن الكتابة قد ظهرت بعد، فالإنسان قد عرف الكتابة من حوالى 5000 سنة، لكن هل يعنى هذا أن ما قبل ذلك لم يشهد تاريخًا قط؟
إن للتاريخ الإنسانى عناصر ثلاثة هى: الإنسان والزمان والحدث.. فالإنسان هو الفاعل «من»، والزمان هو النطاق الوقتى للحدث «متى» والحدث هو الفعل «ماذا».. فما دامت تلك العناصر الثلاثة متحققة الوجود يكون التاريخ.
عصور ما قبل التاريخ شهدت ظهور الإنسان، واكتشافه استخدام النار والأدوات، وتطوره من الاعتماد فى غذائه على الجمع والالتقاط إلى الصيد والرعى والزراعة، وانتقاله من حالة التجوال والتنقل الدائمة إلى الاستقرار وتكوين المجتمعات، وتحضر مجتمعاته من الأسرة إلى العشيرة، ومن العشيرة للقبيلة ثم للقرية ثم للمدينة ثم للدولة، وظهور الزعامات المحلية والطبقات والفنون الموصوفة بالبدائية والمعتقدات الدينية، فكيف لا يكون كل ذلك تاريخًا؟
وأما «العصور التاريخية» فتبدأ باختراع الكتابة وهو الاختراع الذى لم ينتج عن مجرد رغبة الإنسان فى الثرثرة، بل لتزايد الثروات واتساع تبادل الخدمات والتجارة وبالتالى الحاجة إلى إيجاد وسيلة لتسجيل قوائم الإنتاج والوارد والصادر منه، كان هذا هو منطلق اختراع الكتابة، التى اتسع نطاق استخداماتها للمادة التاريخية الثرية من تسجيل أعمال الملوك وتواريخ الدول والنصوص الدينية والمراسلات الرسمية، وغيرها، كبداية لظهور «كتابة التاريخ».
وللحديث بقية فى المقال القادم إن شاء الله من هذه السلسلة من المقالات.
Trending Plus