قادش ومعاوية والجولاني.. جيوسياسية سوريا الملعونة (3)

بعد عقد صلح بين الفرس والروم أعقاب هزيمة الفرس في آخر معركة في الحرب الكبرى 628 م، فقدت الممالك التابعة لهما "المناذرة والغساسنة" قوتهما أيضًا لانخراطهما بشكل مباشر في تلك الحروب، وفي تلك الأثناء توحدت القبائل العربية من جنوب سوريا الأردن وغرب العراق والحجاز، لتشكل قوة عسكرية كبيرة لم يعد في استطاعة الامبراطورتين المنهكتين صدها، فتساقطت تلك الممالك لتصبح في حيازة القوات العربية الناشئة، التي دخلت سوريا عام 635م، بعد خوض معارك مع القوات الرومانية، وبذلك أصبحت سوريا جزءًا من الدولة العربية الجديدة.
معاوية يحقق حلم سوريا بعد 37 قرنًا
ظلت سوريا ممالك صغيرة أو مدن حضارية خاضعة للممالك والإمبراطوريات القوية، مر عليها حوالي 37 قرنًا "3661 عامًا" منذ ظهور أولى الحضارات فيها مثل مملكة إبلا حوالي 3000 ق.م، وأوغاريت – في اللاذقية- التي كانت باكورة الحضارة والتقدم والممر التجاري الذهبي بين مصر وبلاد ما بين النهرين.
تحولت سوريا عبر سنواتها إلى "بصلة حضارات" كل طبقة تشكل هوية وثقافة مرتبطة بسابقتها، من الشرق أثر عليها السومريين والأكاديين ، وغربها الفينيقيون وثم اليونانيون والرومان، ومن الشمال أثر الحيثيين والأشوريين، وجنوبها مصر بكل ما تملكه من مجد، طبقات متراكمة من الحضارات المتعاقبة، كل حضارة وثقت وجودها بأحرف ذهبية على صفحتها. حتى جاء توحيدها كدولة سياسيًا وإداريًا في عهد معاوية بن أبي سفيان عام 661 م، وقد سطرت مقالاً بعنوان "معاوية وثوب المسيح وحرب السرديات"، تناولت خلاله كيف رآي المعاصرون للدولة الأموية حكمه.
اختار معاوية بن أبي سفيان دمشق عاصمة لحكمة، لتصبح مقرًا للدولة الأموية من بعده حوالي 90 عامًا شكلت فيه عصرًا ذهبيًا، لم يعد إلى الآن، فهي قلب الإمبراطورية الرومانية في الشرق مزدهرة حضاريًا وإداريًا وثقافيًا ودينيًا خاصة الكنيسة السريانية، والممر الذهبي الثقافات والحضارات القديمة، تلك الوحدة السياسية والإدراية حولت سوريا لبوتقة صهر واندماج الثقافات والإثنيات والديانات، الأكراد والأرمن والعرب واليونان والرومان، والعرب مع الإرث الروماني المسيحي.
ولعل قرار معاوية بتوريث الحكم لأبنائه من بعده، نابعًا من تأثره بالإمبراطوريات المعاصرة فالفرس والرومان كذلك، الأبناء يرثون ملك الآباء، فالنموذج كان أمامه حاضرًا، فلم يكن عسكريًا جسورًا أو سياسيًا محنكًا فقط، بل كان إداريًا بارعًا أيضًا، استفاد من الخبرات الرومانية في التنظيم العسكري والإداري والبنية التحتية، لذا أسس أول إسطول بحري وحاصر به القسطنطينية فيما بعد، ونظم قواعد التجنيد في الجيش، وأنشأ ديوان البريد لربط أركان الدولة وربوعها، كما أسس نظام بيروقراطي معقًدا مستفيدا في ذلك من الفرس والرومان.
سوريا في العصر العباسي
سقوط الدول والإمبراطوريات، قاعدة ثابتة منذ بدء الخليقة، الأسباب والمؤشرات عديدة ومتشعبة، ليس المجال هنا لمناقشتها. سقطت الدولة الأموية في 750م على أيدي العباسيين، سأكتفي هنا بذكر مفارقة هامة فيما بعد، هنا آفل نجم سوريا السياسي وولى العصر الذهبي، لتصبح مجرد ولاية تابعة لمقر الخلافة الإسلامية العباسية في بغداد .
ازدهرت الدولة العباسية على كل المستويات، ولكن حياة الأمم كالبشر، تخضع لمعايير سُنة الحياة، ومرت بمراحل الولادة والشباب والنضج، ثم بدأت علامات الشيخوخة تظهر عليها بعد نحو 100 عام من تأسيسها، فلم يمر عام 850 م حتى نبش الضعف في جسدها، لتستقل الممالك التي كانت تحت حوزتها، البعض يعترف بها اسميًا وليس فعليًا، كل ولي بدأ في الطمع بالأراضي التي تحت سيطرته فظهرت قوى إقليمية مستقلة، مثل الدولة الطولونية الإخشيدية والفاطمية وفي أسيا والطاهرة التي استقلت بخرسان ثم الصفارية والسمانية والغزنوية، والسلجوقية والخوارزمية.
مركزية الأموين ولا مركزية العباسيين
كانت المركزية المطلقة هي شعار الأمويون، في الإدارة والهوية، و اللغة جزءًا أساسيًا من أدواتها، فلم تكتف دولتهم بالجزية أو الخراج، بل يتحتم على أي والي يرغب في بناء قلعة مثلاً، أخذ السماح والإذن أولاً من السلطة العليا "أمير المؤمنين"، الأمر الذي أدي لاستياء الولاة فيما بعد، خاصة مع رفع الضرائب المفروضة عليهم، وكان أحد عوامل السقوط، عطفًا على فرض الهوية العربية كأساس للمالك الخاضعة لهم، فأصبحت المخاطبات الرسمية باللغة العربية وتباعًا تعريب الدواوين، عطفًا على التمييز العرقي فالأفضلية للعرب، وباقي العرقيات والإثنيات والمذاهب كانت مهمشة.
طوى العباسيون صفحة المركزية، وسمحوا باستقلال نسبي للولاة، دون فرض قوانين داخلية على المجتمعات التابعة لهم، هنا يمكن للوالي فعل ما يشاء في ولايته طالما يدفع الأموال المفروضة على ولايته لأمير المؤمنين، إلا أن لا مركزية العباسيين أدت لاحقًا لتفسخ الإمبراطورية، وطمع كل والي في الاستقلال بولايته، مما أدي تدريجيًا إلى استقلال كامل للولايات، في ظل الصراعات على الحكم والانقسامات الداخلية في قلب الخلافة.
لعل روافد القوة هي ذاتها أسباب الانهيار، مركزية الأمويين، كانت بواعث قوة، وأداة هامة توحيد الإمبراطورية وهي ذاتها من الأسباب التي أدت للانهيار بعد استياء الولاة والشعوب غير العربية الأمر الذي مهد للسقوط، واللامركزية المطلقة لـ"العباسيين" سمحت بإثراء التنوع داخل المجتمعات غير العربية، ولكنه انتج فوضى وانقسام مهد أيضًا للسقوط.
تمزق جسد سوريا بين الممالك الرومانية والحمدانية شمالا والطولونية والإخشيدية والفاطمية جنوبًا
تمزق الجسد السوري، لتُشكل الممالك المستقلة ملامحه، تلك الخاضعة للعباسيين اسمًا، ما بين سيطرة الرومان على أجزاء من الشمال، والحمدانيين في حلب، والطولونيين ثم الأخشيديين في الجنوب ودمشق، والفاطميين القادمون من مصر.
تمكنت الدولة الطولونية 867- 905م من الاستقلال بمصر ثم ضم سوريا، ثم خضعت حلب للدولة الحمدانية "شيعة إسماعليين"، 929م، التي ظهرت أعقاب ضعف الخلافة، و أسسها حمدان التغلبي، بعدما شارك في حروب الخلافة ضد الرومان، فولتّه الموصل، ثم توطدت قوته وزاد نفوذه ليمتد إلى سوريا، فأسس خليفته سيف الدولة الحمداني945–967م، إمارة حلب، وإبان ذلك هناك عدة قوى أخرى تسيطر على الجسد الممزق، منها الدولة الإخشيدية “السنية"، التي تأسست في مصر عام 935 م، وضمت الحجاز وسيطرت على جنوب سوريا بما فيها دمشق، الأمر الذى أدي لحروب عدة بينهما على تحديد مناطق النفوذ، وتزامن ذلك مع صعود الدولة الفاطمية "الشيعية" في المغرب عام 909، وبعدما تمكنت من السيطرة على مصر 969، بدأت التوسع نحو سوريا وأخذت الأراضي الأخشيدية في سوريا بما فيها دمشق، لتدخل هي الأخرى مع الحمدانيين حروبًا لرغبتها في ضم سوريا كلها.
وخلال الحروب الحمدانية الرومانية، تمكنت الإمبراطورية عام 968م من السيطرة على أنطاكيا "ضمتها تركيا لها عام 1939"، وتزامن ذلك مع سيطرة الفاطميون على مصر 969 م، الأمر الذي مهد لتغير خريطة الفاعلين الدوليين آنذاك، هنا وقعت الدولة الحمدانية الشيعية بين فكي الرحى في حلب، الإخشيديين ثم الفاطميين جنوبًا والرومان شمالاً، حتى زالت تمامًا بعدما سيطر الفاطميون على حلب عام 1004 م.
لم تذق سوريا طعم الاستقلال إلا في عهد معاوية بن أبي سفيان، وحده من رفع راية السيادة على سمائها بتأسيسه دولة الأمويين من قلب دمشق.
وللحديث بقية..
لقراءة الجزء الأول.. أضغط هنا
لقراءة الجزء الثاني.. أضغط هنا
Trending Plus