محمد دياب يكتب: صيام تحت القصف وقيام تحت الأنقاض

كأن الشمس أشرقت في الليل، أو كأن الأرض أخرجت أثقالها. عندما يهوي صاروخ على منزلٍ آمن، لا يُحدث دماراً فقط، بل يقتلع تاريخاً، ويمحو ذاكرةً، ويفتت حياةً كانت تنبض قبل ثوانٍ. كان الاطفال يلعبون، وكانت النساء يعددن الإفطار، وكان الشيوخ يدعون الله أن يمر هذا الليل بسلام. لكن الليل لم يأتِ بسلام، بل جاء يحمل معه جحيماً من النار والدمار، وكأن غزة كُتب عليها أن تعيش بين أشلاء الأمل ورماد الوجع
هناك تحت الأنقاض، حيث الظلام والصمت، يعلو صوت صغير ينادي: "أماه، أنا هنا!" لكن الصوت يخفت تدريجياً، فالأنفاس تُختنق، والصراخ بلا جدوى. يحاول الآباء والأمهات إنقاذ فلذات أكبادهم، يحفرون بأيديهم العارية بين الحجارة، لكن بلا فائدة. الأدوات قليلة، والوقت يمرّ كوحشٍ مفترس ينهش الأرواح قبل الأجساد. كم من طفلٍ خرج حياً من تحت الركام، لكنه خرج ليجد أنه صار وحيداً، بلا عائلة، بلا منزل، بلا حياة؟
إن لم يقتلهم القصف، فإن البرد يتكفّل بالباقي. منهم من يرتجف في الخيام، ومنهم من يرتجف في العراء، وكلاهما يموت برداً. المشهد في غزة لا يشبه سوى روايات الكوارث، حيث ينام الأطفال على الأرض دون غطاء، ويستيقظون على البرد الذي يتسلل إلى عظامهم. يموتون ببطء، ليس فقط بسبب نقص الدواء والغذاء، ولكن لأن العالم قرر أن يتركهم وحدهم في مواجهة قدرٍ لا يرحم
وسط هذا الظلام القاتل، لم تكن غزة وحدها. كانت هناك يدٌ تمتد رغم الجراح، تحاول أن تمسح الألم، وتعيد نبض الحياة. مصر، التي كانت ولا تزال السند الحقيقي لغزة، لم تتخلّ عنها يوماً. فتحت مصر معبر رفح في أصعب الظروف، ووصلت قوافل الإغاثة، ودخلت الأدوية والمساعدات، واسُتقبل الجرحى في المستشفيات المصرية، كل ذلك لم يكن مجرد دعمٍ سياسي، بل كان تعبيراً عن أخوّةٍ تمتد عبر التاريخ والجغرافيا
مصر، رغم التحديات، لم تغلق أبوابها أمام غزة، ولم تدر ظهرها كما فعل الكثيرون. وحينما خيّم الصمت الدولي، كان الصوت المصري واضحاً، يطالب بوقف النزيف، ويعمل في صمتٍ على تخفيف المعاناة. المستشفيات المصرية فتحت أبوابها للمصابين، وقوافل المساعدات عبرت الحدود رغم المخاطر، لأن غزة ليست مجرد جيران، بل هي جزءٌ من الروح المصرية والعربية
بينما نجلس نحن على السحور، يجلس أهل غزة تحت القصف. الطاولات هناك ليست ممتلئة بأصناف الطعام، بل بالألم والترقب. لا أحد يعلم إن كان سيفطر في المساء، أم سيكون شهيداً قبل أن تغرب الشمس. في غزة، حتى الطعام صار حلماً، والسكون صار ترفّا لا يعرفونه
حين يحين موعد الإفطار، يكون البعض قد رحل. لم يذهب ظمأهم، ولم تبتل عروقهم، بل ارتقوا قبل أن يكسِروا صيامهم. هناك، لا طاولات عامرة، ولا أصوات أطفالٍ يركضون فرحين، بل أنينٌ خافت، ودموعٌ لا تجد من يمسحها
رمضان في غزة ليس كأي رمضان. هو شهرٌ يختبر فيه أهلها صبرهم بأقسى الطرق. بين الخوف والجوع، ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات، يعيشون أيامهم بين القصف والدموع. لكنهم، رغم كل ذلك، لا ينكسرون. يرفعون رؤوسهم عالياً، ويتمسكون بأملٍ قد يبدو بعيداً، لكنه حيٌّ في قلوبهم
في غزة، لا تنتهي الحكايات كما يشاء الطغاة، ولا تُطفأ الأرواح تحت الركام، بل يولد النور من بين الأنقاض، ويعلو صوت الصمود فوق ضجيج الدمار. هناك، كل فجرٍ شهادةٌ على البقاء، وكل ليلةٍ امتحانٌ للصبر، حيث تُروى الأرض بدماء الأبرياء، فتنبت منها جذور العزة والإباء
لكن فليعلم القاصي والداني أن غزة ليست وحدها، ولن تكون يوماً يتيمةً في الميدان. قد يُحكم عليها الحصار، وتُسدّ في وجهها السبل، لكن في قلبها جذوةٌ لا تنطفئ، وفي دربها إخوةٌ لا يخذلون. ومصر، التي عرفت معنى الوفاء، لم تكن يوماً غائبةً عن ندائها، بل كانت درعاً وسنداً، تبذل ما تستطيع، لا لمنح الحياة فقط، بل لحفظ الكرامة التي لا تُشترى
من يظن أن غزة ستنحني فيلعلم أن العواصف مهما اشتدت لا تقتلع الجبال، وأن النار مهما استعر لهيبها لا تحرق الحق، بل تُطهّره من شوائب الباطل. غزة ليست مدينةً تُمحى من خرائط الأرض، بل أيقونةٌ تُرسم في ضمير الإنسانية، وحكايةٌ تُروى على مر العصور
وإن طال الليل، ففجرها آتٍ لا محالة، وإن تكالبت عليها الخطوب، فالنصر وعدٌ من الله، لا يخلف الله وعده.
Trending Plus