خالد دومة يكتب: أيام طه حسين

فرق بين أيام وأيام، شعور وأخر، سنوات وسنوات، أعمار كاملة وأخرى تنقضي بعد زمن ما، عاش الرجل حياتين، بينهما من التناقض الكثير، حياة الريف بكل ما يعتريها من طقوس وتقاليد محفورة في أذهان أهلها، خطوط عريضة، لا يتعدونها يمارسون حياتهم فيها، حتى في رضاهم بها، يتبعون التقاليد والأعراف السائدة، عاش كما يعيش آلاف من فتيان القرية، وألهمه فقدان البصر، أن يتمعن فيما يصل إلى أذنيه، أحب القصة على أنغام الربابة، وشعورا عميقا بالكلمة والصوت، عانى كما عانى الكثير من الفتيان، من طرق تلقي الحفظ والنسيان، والأمل في المكانة التي ينالها أهل القرآن، وخريجي الأزهر، وحين يتاح للإنسان قدر من الفكر والروية، يغربل الأشياء المحيطة به، ويفكر فيها، ويعيد التفكير ويكتشف أن كثير مما يحيط به إنما هي أعمال تنافي العقل والمنطق، ومن كثرة ترديدها يظن أهلها إنها عين العقل، وإنها النجاة وغيرها مما يجهله هو الهلاك، أنتقل إلى الأزهر وناله ظلم وإجحاف سافر إلى أوروبا، فتكشفت له أشياء جديدة، لم يكن ليعرفها لولا سفره في بعثة، عالم غير العالم، وواقع غير الواقع، الذي عاشه، وحياة لا تمت بصلة للحياة، التي كان عاشها في بلاده، وبين العالمين المتناقضين، كان طه حسين أو كان الأديب ينفتح على عالم جديد، المسرح والسينما، وتاريخ طويل يطلع عليه قديم هو تاريخ عباقرة الأدب في العصر اليوناني القديم، يتزود بزاد أخر، غير ما تزود به في بلاد من تاريخ عربي قديم، يقيم الجسور بين الأدبين ويدافع وينافح ويخوض معارك ويترجم هنا وينقل من هناك، ويؤلف ويكتب وينقل أفكاره في كتبه وصحائفه، ولطه حسين أسلوبه الخاص في نقل أفكاره، وأن كان لكل أديب أسلوبه، ولكن لطه حسين في إملائه لأفكاره ونقله لها إملاء طريقة فريده، لها مميزات كما أن لها هنات، لا نتعرض لها في الحديث عن طه حسين الأديب الذي ألهم الكثير من الشباب معاني الإرادة والعمل، وأن فقدان البصر، لم يكن حائل في أن يكون أديبا مرموقا، له شهرة واسعة في بقاع الوطن العربي، وترجمت بعض كتبه وأفكاره إلى اللغات الأخرى في حياته وبعد مماته، فما نريد الحديث عنه هو تعرضه لبيئات متناقضة، والعيش فيها وأثرها على فكره وأدبه ونتاجه، فهل كان لحياة القرية أثر في تكوين ذهنه وما طرأ عليها بعد أن أطلع على عالمه الأخر، الذي عاش فيه لسنوات وظل إلى نهاية حياته يزوره حاجا، وسائحا وطالبا للمتعة والراحة في ربوعها ...هل لو كان طه حسين مبصرا، سيصبح ذلك الأديب الكبير المشهور، أم كان سيكتفي بأن ينال شهادة الأزهر، ثم يعود إلى قريته ينال على أيدي أهلها المجد والتبجيل، الذي كان يناله كل أزهري ويكتفي بذلك ..لم يكن لطه حسين أن يقعد عن طلب الأدب ففي طلبه إلحاح من داخل النفس، وأن كان له عزيمة في تحصيله، وهو فاقد البصر فسيكون أشد إلحاحا له وهو مبصر يتفقده بناظره، ويتحسسه مشاهدة وشعورا فقد كان له أخ يكبره، ولم يطلب إلا ما يطلبه كل أزهري من تلقين وحفظ وترديد وإيمان متبع، إن كل حياة تعطي للإنسان لعقله وقلبه وشعوره زاد، وما بين الحياتين المتناقضتين، هناك حياة مختلفة إذا تحفز العقل على الإبداع والإبتكار، والمقارنة بين الأفضل والمفضول أو بين الصواب والخطأ، ثم يكون لعقله تكوين أخر قد لا يميل إلى القديم أو يتبع الحديث بكل ما فيه وإنما يكون بين بين، ويختار من كل منهما ما تميل إليه شخصيته، وما يرتضيه له عقله وما تطمأن له نفسه، بعد أن يفند ويحلل ويوازن ثم يختار بروية وبعد تأني.
Trending Plus