سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 6 مارس 1969.. الفريق عبدالمنعم رياض يقضى ليلته الأخيرة فى بغداد مستمتعا بأم كلثوم تغنى «الأطلال» ويقارن بين شعر «رامى» و«ناجى» ثم يعود ليلقى استشهاده بين جنوده

كان الوقت مساء الخميس 6 مارس، مثل هذا اليوم، 1969 وبغداد تتلألأ بأضوائها، وفى «كازينو كسرى» الذى يبعد عن المدينة نحو 20 كيلومترا يجلس الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، فى ليلته الأخيرة بالعاصمة العراقية، حسبما يذكر الكاتب الصحفى عبدالتواب عبدالحى فى كتابه «نسر مصر عبدالمنعم رياض حيا وشهيدا».
كان «رياض» فى بغداد منذ يوم الاثنين 3 مارس 1969، وقضى أربعة أيام فى اجتماعات متصلة فى رئاسة الأركان العراقية، وكان الموضوع الأساسى للاجتماعات هو بحث «دعم الجبهة الشرقية» فى المعركة التى يستعد لخوضها الجيش المصرى ضد إسرائيل لتحرير الأرض المحتلة بهزيمة 5 يونيو 1967، وانتهت الاجتماعات عصر يوم الخميس، واحتفاء به وودعا له، أقاموا حفل عشاء فى «كازينو كسرى».
كان حفل العشاء فرصة ليعرف ضيوفه الجانب غير العسكرى فى شخصية رياض الذى يتحدث أربع لغات أجنبية بطلاقة هى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية إلى جانب اللغة العربية، وكان لديه إلمام باللغات الإسبانية والإيطالية واليوغسلافية، وكان يجيد الحديث باللهجات العامة لكل من العراق وسوريا ولبنان والأردن والكويت والسودان.
كما كان قارئا فى كل شىء، فى العسكرية والاقتصاد وهندسة الكهرباء والإلكترونيات، ويقرأ فى السياسة والطب والفلسفة والأدب والشعر، ويذكر عبدالتواب عبدالحى، أن الكتب فى مكتبة عبدالمنعم رياض تشهد أنه كان صاحب طريقة فى القراءة، كان يقرأ بسرعة وتركيز معا، وفى هامش الصفحة يلخص كل فقرة أو فقرتين فى 3 أو 4 كلمات، وهذه الكلمات القليلة كانت تكفيه كلما رجع إلى الموضوع لكى يتذكره كله، واكتسب هذه الطريقة فى القراءة أثناء دراسته فى مدرسة «فنون المدفعية» البريطانية بمدينة «لاركهيل».
يذكر «عبدالحى» أن «إيوان كسرى أنو شروان» كان يقف فى خلفية الكازينو شامخا بأبهته على الزمن، وحين دخل رياض، نظر نظرة فاحصة للإيوان ثم قال: «أول مرة أشوفه، رغم زياراتى المتكررة لبغداد، لم أكن أتصوره هكذا عظيما ومحتفظا بكيانه، وكأن كسرى قد أخلى إيوانه من لحظة لنتفرج نحن عليه».
ابتسم المرافقون العراقيون من رئاسة الأركان، وجلسوا إلى العشاء، وصوت أم كلثوم ينساب من الراديو وهى تغنى قصيدة «الأطلال» شعر إبراهيم ناجى، وتلحين رياض السنباطى، وتوقفت ملعقة حساء فى منتصف المسافة إلى فم رياض، وأم كلثوم تغنى «واثق الخطوة يمشى ملكا/ ظالم الحسن شهى الكبرياء/ عبق السحر كأنفاس الربى/ ساهم الطرف كأحلام المساء»، وتراجعت المعلقة إلى طبق الحساء، ليعلق رياض، ويبدأ حوارا مع الحاضرين حول الشعر العربى والغزل فيه.
علق رياض على البيتين التى تغنت بهما أم كلثوم من شعر «ناجى»، قائلا: «قرأت كثيرا من الشعر، قديمه ومعاصره، لم أتذوق فى أشعار الغزل والنسيب أحلى من هذين البيتين، تأملوا: حسن الحبيب عندما يطغى لدرجة الظلم»، تواصل الحديث وتفرع إلى مقارنة سريعة بين أشعار أحمد رامى وناجى، ويضيف «عبدالحى»: «بنظرة ناقد أدبى متمكن قال رياض: «رامى شاعر الحرمان، تحرمه محبوبته فيتأجج إلهاما وشعرا، وتنعم عليه بالوصال فيبرد وتتثلج عواطفه وينشل شيطان شعره، بعكس إبراهيم ناجى، فقد كانت له ملهمات كثيرات، ابتداء من السيدة «ع.م» إلى زوزو ماضى وزوزو حمدى الحكيم، وكان يردد مع أمير الشعراء أحمد شوقى قوله: «كل مليحة بمذاق».
يستمر عبدالمنعم رياض فى مقارنته، قائلا: «رامى تقدر تقول إنه شاعر اللهفة العاطفية، أما ناجى فكان أحسن من ترجم المعنويات إلى محسوسات، يقول «عبق السحر»، وهل للسحر عطر؟، ويقول فى قصيدة أخرى: «نلمس الظل» و«نعانق النور»، والظل والنور ستحيلان حسا على اللمس والعناق»، يؤكد عبدالحى، أن رياض كان يتحدث بتدفق، والكل على مائدة العشاء منصت ومندهش معا من هذا الرجل الذى ظل طوال الأيام الأربعة الماضية يعرض فى اجتماعاته أفكارا عسكرية راقية، ويتكلم بلغة الجنرالات، وها هو يتحدث الآن بمثل هذه المعرفة الدقيقة عن الشعر.
ومع سحر حديث رياض انبرى ضابط عراقى كبير يجلس قبالته، قائلا بحماسة وانفعال صادقين: «سيدى الفريق، ما فتحنا للحديث موضوعا، إلا وجدناك بحرا فيه، وصدقنى إذا قلت لك إننى أصبحت أخشى الكلام معك فى أى شىء، حتى لا تحرجنى معلوماتى المحدودة، وإن كنت أستمتع بحديثك دائما، وأعرف أكثر».
يذكر عبدالحى: «انتهت السهرة، وعاد الفريق رياض إلى قصر الضيافة ببغداد فى العاشرة مساء، ليستعد لرحلة العودة إلى القاهرة مع منتصف الليل، وكانت هذه الليلة هى الليلة الثانية قبل الأخيرة من 18 ألفا و36 ليلة هى بالحساب الدقيق كل عمره».
عاد رياض إلى القاهرة، وفى يوم 9 مارس 1969 ذهب إلى الإسماعيلية وفى الخطوط الأمامية للجبهة لقى استشهاده بين جنوده بقذائف غادرة للعدو.
Trending Plus