عقل الإقليم وعضلاته وضميره الحى.. عن قيادة مصر وخُطاها الثابتة إذ يتعثر الجميع

ما كانت المنطقة طرفا فى قرار «الطوفان»؛ لكنها تضرّرت بداعياته، وصارت شريكًا مباشرًا فى استدراك ما جناه على غزّة وفلسطين وعموم الإقليم. لا أحد خارج مجال المسؤولية؛ حتى الذين يتعالون على القضية أو يشبكون مصالحهم فى قطار آخر، والذين لا يحبّون حماس ومحورها، أو يعجزون عن لعب أدوار مثمرة بعيدًا من العاطفة وأشغال العلاقات العامة. العبء على الجميع، أرادوا ورحّبوا أم أنكروا واستنكروا.
قد لا يكون حديث الأخوّة والهُويّة المشتركة مُقنعا لكثيرين، والقوميّة العربية استنفدت فوائضها التعبويّة منذ زمن عبد الناصر. فلسطين سؤال ناسها أوّلاً، ووجيعة الإنسانية كلها على طول الخطّ، وقضية سياسية قانونية يجب ألا تتلوّث بالدين والعِرق، ورغم كل ذلك لا مناص من التحاق العرب بها من دون استثناء، والاستماتة فى الدفاع عنها، واتّخاذها قضية وطنية فى كل قُطر على حِدة.
ومرجع القول؛ أن إسرائيل ليست بلدًا طبيعيًّا من أى وجه. لقد تسرّبت إلى فلسطين التاريخية من باب العبور الفردىّ المُتدرّج، وتحت ستار البحث عن ملاذات آمنة. ابتلعت الأرض ثم طردت ساكنيها، وطوّحت عينها شمالا نحو سوريا وجنوبا إلى سيناء، واليوم تقضم مساحات من الجنوب اللبنانى، ولا ينطفئ طموحها للتمدّد فى كل الاتجاهات، واستقراء أوهامها التوراتيّة المُترامية من النيل للفرات.
يُجاهر الصهاينة برغبتهم فى تطهير الفلسطينيين عِرقيًّا، ويطمعون فى إزاحتهم إلى مصر والأردن رغم اتفاقيتى السلام، ويتجرّأون على مطالبة السعودية بمنحهم وطنا بديلاً فى أراضيها؛ رغم أنها لم تكن طرفًا مباشرًا معهم فى حرب أو سلام، وآخر صلة ذات روائح عقائدية مشتركة كانت فى العام السابع للهجرة، وقتما طرد المسلمون الأوائل يهود خيبر من أطراف المدينة المنوّرة.
لا قناعة لدى النازية الصهيونية بأنها بلد عادى، ولا يحب أن يكون عاديا. لا ترى نفسها جزءًا من كل، وطرفًا صالحا فى علاقات سويّة مع آخرين؛ بل تتطلّع لنفسها من زاوية الأيديولوجيا، وتقدم تصوّرها الميثيولوجى عن دولة التوراة والمُختارين السماويين فى مواجهة كون كامل من الأغيار وأراذل البشر. ولن تستقيم الصِّلة مع أى محيط قريب؛ ولن تتوقف عن مساعيها لأن تظلّ سيّدًا على أتباع، أو على الأقل «الأوّل بين متساوين».
استمدّ نتنياهو وقود جولته الجديدة من نزوة السنوار، وأعلن الحرب على غزّة مُقدّمةً لتسعير النار على امتداد الإقليم. قال إنه سيُعيد ترسيم خرائط الشرق الأوسط، وتفاخر بالحرب على سبع جبهاتٍ، وما يزال قابضًا على البندقية ولو ألقى القفازات مُؤقتا. يضغط بكل قواه لتحصيل ما تعذّر عليه فى الميدان، أو العودة للقتال رهانًا على هشاشة الغريم، ورسوخ الإسناد الأمريكى الكاسح.
والتصدّى لمشروع استعمارى منحط كهذا؛ إنما يبدأ من الانتصار فى الجولة المفتوحة، وليس تعليقها على أمل أن يتكفّل بها المستقبل، أو تقود التسويات الاقتصادية والدخول فى مصالح مشتركة إلى توافقات بشأنها. لقد ارتدّ الصهاينة عن أوسلو بدمٍ بارد، ويرفضون حل الدولتين علنًا، ويسعون لإزاحة ديموغرافيا فلسطين من مواضعها، ولن يتأخروا فى الإعلان عن ضمّ الضفة الغربية قريبًا. لا أُفق للمصالحة أو المساكنة الهادئة، ولا معنى على الإطلاق لرقص البعض على السلالم، أو إمساكهم العصا من المنتصف!
القصد؛ ليس أنه يتعيّن علينا خوض الحرب إلى جوار «حماس»، بينما الحركة أزاحت نفسها والقضية جانبا، وعملت لخدمة مشاريع مذهبية وعرقية لا تنتمى للمنطقة، أو بالأقل لا تخص فلسطين. المسألة تتجاوز الجناح الإخوانى، والفصائل كلها، وتمتدّ إلى ضبط المقادير التى ستحكم علاقة العرب بالصهاينة فى مُقبل الأعوام، صحيح أن السياق يبدو صاخبًا فوق العادة بالنظر لأثر ترامب وإدارته؛ لكن ما يتحدَّد فى الحاضر سيكون عنوانا على المستقبل، وقد لا يتيسّر تصويبه والخلاص من ارتداداته بسرعةٍ ومن دون تأثيرات قاسية.
وعلى ما فات؛ فإن الهيئة الإقليمية مدعوّة بكاملها للنظر فى الغامض البعيد، وقد تبدّت بعض مُؤشّراته فى الحرب الإبادية الشعواء على القطاع، وفى سلوكيات الاحتلال إزاء لبنان وسوريا، وما يتردّد داخل حكومته التوراتية المتطرفة عن التهجير وزحزحة الخرائط، وإعادة تكييف سرقتهم للأرض تحت لافتة مُغايرة، فيُزاح البشر إلى الجغرافيا بدلا من اقتطاعها، وتتحقق تأثيرات التوسّع من دون أعبائه الظاهرة.
وبالمنطق ذاته؛ فإن ما يُراد لجهة اللعب فى الطبوغرافيا البشرية لفلسطين، سيتكرر مع المُختارين لدخول شراكات فوق سياسية لتغيير ملامح الإقليم، وبدلا من الحرب والطِّعان وتقدّم الجنود أو ترحيل السكان، ستتحقق القفزة الكولونيالية من خلال الاقتصاد، والهيمنة السياسية والمعرفية على الفضاء المشترك، وعلى قرارات الشركاء إذ يُخضعون أنفسهم للدائرة الصهيو-أمريكية، ويُقدّرون الأوزان على غير حقيقتها بخفّة واستخفاف.
يُورَد عن رفيق الحريرى رحمه الله، أنه بعدما التقى بشّار الأسد لأول مرة فى العام 1999، وقبل شهور من رحيل الأب، خرج قائلاً: «الله يعين سوريا رَح يحكمها وَلَد»، قاصدًا أن ما استمع إليه واختبره فى المقابلة لا يُطمئن إلى مستقبل البلد، وينُمّ عن محدودية فى القدرات ورعونة فى مقاربة الأمور واستخلاص حقائقها، وتأكد ما حذّر منه الرجل على مدار سنوات تردّت فيها دمشق من سيئ إلى أسوأ، حتى طُردت من لبنان بعد عقود الهيمنة، وبأثر علاقتها باغتيال الحريرى نفسه بأيدى ميليشيا حزب الله.
انقضى ما يفوق ربع القرن على اللقاء والعبارة البليغة، وما تزال روائح النكبة الأسدية حاضرة فى الشام باتساعه، وسلوك الأولاد والصغار مُتردِّدًا من زوايا إضافية. السياسة عمل شاق، وصناعة ثقيلة؛ لكنها فضفاضة ورمادية الحدود، وتبدو سهلة لدرجة أنها تغرى الهاجع والناجع، وتفتح أحضانها للمُعتل والمُختل ومتضخم الذات، ودائمًا تتكبّد الأوطان الأعباء، وتدفع الأثمان الباهظة للنزوات والمُغامرات الطفولية.
ما كان الإقدام على هجمة الغلاف صائبا، ولا افتتاح حسن نصر الله لحرب الإسناد والمشاغلة من جهة نهر الليطانى، ولا تشغيب إيران ولعبها بالنار فوق قَشّ الإقليم المُندَّى بالزيت والبارود. لا الراهن الذى نحياه زمن حرب، ولا الواجبات المُلقاة على عاتق العواصم الكُبرى وعُقلائها تحتمل الرفاهية، أو يجوز فيها تقطيع الوقت وتضييع المسارات، وإعلاء المُناكفة والبحث عن أدوار على حساب الوصول إلى حلول جادة وتفاهمات واعية.
وعَت القاهرة حدود الأزمة مُبكَّرًا، وبادرت برؤاها بينما كان الباقون يتعثرون فى استيعاب المشهد، والإحاطة بتفاصيلها المُعقدّة من أطراف فارس إلى ساحل غزة. تصدّت القيادة المصرية لفكرة التهجير وقتما كان الحديث عن إيقاع الحرب وضروريات الإغاثة. قطعت الطريق على الليكود وحلفائه المخابيل، وعلى ترامب قبل أن يلوك أفكاره الصبيانية، وعضّدت الرفض برؤية شاملة وموضوعية تقترح البديل، وتُحدّد آلياته ومسار تحقيقه، وتُوفّر للأشقاء منصّة تُغنيهم عن ضغوط واشنطن، وتنتشلهم من عثرات الهواية والتلفيقات البائسة.
كان العاهل الأردنى شريكًا حقيقيا منذ البداية؛ ربما لأنه وثيق الصلة بالقضية، ويُقاسى حُمولاتها الإنسانية والأخلاقية المُرهقة كحال مصر. رسالة عمّان كانت أشدّ وضوحًا وصلابة من آخرين أكبر وأكثر ثراء، وما تزال، وعندما حلّ الملك عبد الله ضيفًا على البيت الأبيض، أجاد فى امتصاص حماوة الرئيس الجمهورى، والخروج من اللقاء بأقل الأضرار، وكان الاستناد إلى الفاعلية المصرية أهم ما رفعه من أوراق.
أنجزت القاهرة فوق المطلوب منها. لعبت أدورًا سياسية وإنسانية مُركّبة ومتشابكة منذ بداية الحرب، قدّمت نحو أربعة أخماس المساعدات الواصلة للقطاع، واستضافت قمّة مبكرة بعد أسبوعين فقط من الطوفان. أعادت حل الدولتين للواجهة، وأحبطت دعاوى التهجير قبل أن يدخل الآخرون من الجوار أو البُعد على الخطّ أصلاً، وأخيرًا أطلقت خطّتها لإعادة إعمار غزّة فى وجود الغزّيين.
طُرحت الرؤية الوافية على القمة العربية غير العادية فى القاهرة أول من أمس. اعتُمدت بالإجماع، وصارت بالتبعية ميثاقًا مُلزمًا للدول الأعضاء فى الجامعة، فضلاً على المقبولية التى حظيت بها إقليميا ودوليا، مُتمثّلا فى حضور السكرتير العام للأمم المتحدة وممثلى عدد من الفعاليات القارية، ومن المُرتقب أن تُعرض على الاجتماع الوزارى لمنظمة التعاون الإسلامى فى جدّة، الجمعة؛ لتصير مشروعا عربيا وإسلامية بما يُمثّل قرابة مليارى مواطن فى سبع وخمسين دولة، بجانب الرعاية الأممية والقبول الواسع من أفريقيا إلى آسيا وأوروبا.
تدور خطّة مصر على تفنيد أطروحة الريفييرا الترامبية، وتثبيت الحقوق المشروعة للفلسطينيين من بوّابة عمليّة مُقنعة.. قِيل إن الإعمار يحتاج عقدين أو يزيد؛ فقدمت القاهرة رؤية تختصره فى خمس سنوات، ومن دون إجلاء أو تهجير. وحدها تملك المعرفة الفنيّة، والقدرة النوعية لإنفاذها، وقادرة على تحصين ثمار عقلها بالقوّة فى كل مستوياتها، خشنة وناعمة، وبضمير لا يتزعزع، ولا تُغريه المنافع أو يسيل لُعابه على مذبح الأطماع.
تعثّر الجميع وما زلّت خُطى القاهرة. الحماسيون أغرقوا فى مشاريع الشيعية المُسلّحة، وبقية محور المُمانَعة تاجروا بالقضية واستنزفوها لحسابات خاصة، وبعض عواصم الاعتدال قدّمت ضيقها من الأيديولوجيا على التزامها تجاه فلسطين. وظل المصريون على توازنهم الحىّ، الخلّاق، الدقيق وشديد التجرُّد: لدينا دم فى أعناق بعض الفصائل؛ لكننا قادرون على الفصل بين الوطنى والوجودى، نختلف على تديين الصراع وصبغ الإقليم مذهبيا؛ لكننا لا نختلف على الحق والضمير، ونمدّ أيادينا لكل الأطراف بمودة صادقة، ونستر عورات الحبيب والغريب، والبعيد قبل القريب.
صار لدى العرب خطّة بإمكانهم التستُّر وراءها، وإنفاق الجهد والطاقة فى دعمها، بما يحفظ الأرض والعرض والكرامة، ويُثبّت لدى العدوّ أنهم قادرون على الاعتراض والرفض، وعلى اقتراح البدائل وتسييدها، وفرضها على الآخرين ولو كان القطب الأكبر عالميا.
فرصة مثالية للتعبير عن البأس من زاوية صحيحة، وليس بالدعاية والشعارات ومهام العلاقات العامة مدفوعة المقابل، ويجب ألا يُفوّتها المشغولون بفلسطين فى الداخل أو الخارج؛ لأنها فاصل بين البقاء والفناء، وبين الشرف والعار، والأهم بين أن يكون للإقليم صوت مسموع، أو يدخل فى عصمة عصابة لن تُوفّر المهادن والمُشاكس، وستأكل الحظيرة كلها حالما تفرغُ من الثور الأخضر.
Trending Plus